
الانقسام الوظيفي من الصومال لليمن… إسرائيل تربح في صمت
إحسان الفقيه
حرير- في كل مرة تشهد فيها دول عربية انهيارا، أو ضعف مؤسساتها المركزية وقيام كيانات موازية لها، يتكرر السؤال: هل ما يحدث في الدولة فشل داخلي محض، أم أنه يأتي في سياق نمط إقليمي أوسع لإدارة الصراع عبر التفكيك؟
تجري التحركات العسكرية الأخيرة للمجلس الانتقالي الجنوبي في اليمن، تحت غطاء تأمين الجنوب، ومكافحة الإرهاب، إلا أن اتساع رقعة الانتشار في مناطق ذات أهمية اقتصادية واستراتيجية، يؤكد أنه ليس تطورا ميدانيا عابرا، بل يعكس مسارا أعمق لإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية في المنطقة، يعيد تعريف الجنوب كدولة مستقلة. وعند النظر إلى المشهد اليمني اليوم، يصعب تجاهل أوجه التشابه المتعددة مع التجربة الصومالية، حيث لم يعلن تقسيمها بشكل رسمي، لكنه أصبح واقعا سياسيا وأمنيا واقتصاديا، يمثل حالة من التقسيم الوظيفي، ويظهر الكيان الإسرائيلي في الحالتين أبرز المستفيدين من بيئة الانقسام المزمن في البحر الأحمر.
في بداية التسعينيات دخلت الصومال في دوامة من الفوضى مع سقوط مركزية الدولة، وإعلان إقليم أرض الصومال انفصاله، باعتباره كيانا سياسيا وإداريا وأمنيا، مع عجز الحكومة عن بسط سيطرتها على الإقليم، ورغم أن التقسيم لم يتم بشكل رسمي ومرفوض عربيا وإقليميا، إلا أنه تم تعزيزه بسلطة الأمر الواقع، واعترفت به دولة الاحتلال مؤخرا.
في اليمن الوضع لا يختلف منذ اندلاع الصراع في 2014، فالنتيجة: دولة عاجزة عن بسط سيطرتها وسيادتها، وكيانات موازية تسعى لملء هذا الفراغ بالقوة المسلحة، لا بالتوافق السياسي، بدأت بميليشيات الحوثي وانتهت بالمجلس الانتقالي الجنوبي، كلاهما فرض سلطة الأمر الواقع حتى وإن لم يتسن له الانفصال الرسمي، ففي الحالتين لم يكن بديل الدولة مشروعا وطنيا جامعا، بل إدارة للأزمة تحولت إلى وضع دائم، فأصبح الانقسام هو القاعدة لا الاستثناء.
في الصومال، جرى التسليم بوجود أقاليم شبه مستقلة مثل صوماليلاند وبونتلاند، بحجة أنها أكثر قدرة على ضبط الأمن. وفي اليمن، يتكرس المسار ذاته، عبر صعود المجلس الانتقالي الجنوبي، الذي بات يمتلك قوة عسكرية، ونفوذا إداريا، وعلاقات إقليمية، تجعله أقرب إلى كيان مستقل منه إلى فاعل ضمن دولة واحدة.
هذا التشابه ليس شكليا، ففي كلا البلدين، جرى تسويق الكيانات المحلية بوصفها حلا واقعيا في ظل فشل المركز، لكن هذا الحل ألغى فعليا فكرة إعادة بناء الدولة، واستبدلها بإدارة الانقسام. ما يجعل الصومال واليمن حالتين متشابهتين بشكل لافت هو الموقع الجغرافي، فكلاهما يطل على واحد من أهم الشرايين البحرية في العالم: خليج عدن وباب المندب والبحر الأحمر، ما حول البلدين إلى ساحة تنافس دولي محتدم. في هذا السياق، يصبح وجود دول ضعيفة مقسمة – حتى إن كان التقسيم وظيفيا لا رسميا- ذا فائدة قصوى للاحتلال الإسرائيلي، الذي يسعى للتحكم في الممرات البحرية، بدلا من التعامل مع دولة قوية ذات قرار سيادي مستقل. فالاحتلال يتعامل مع البحر الأحمر بوصفه قضية أمن قومي، ويشكل مضيق باب المندب هاجسا استراتيجيا له، إذ إنه الشريان البحري الذي يربط دولة الاحتلال بآسيا وشرق افريقيا، وعندما فشل رهانها على بريطانيا في الإبقاء على وجود عسكري بعد انسحابها، عمدت إلى السعي لتفكيك وحدة اليمن، بما يجعله فاقدا لقرار السيادة على المضائق، ويبرز هنا المجلس الانتقالي الجنوبي كقوة وفاعل محلي لا يحمل موقفا عدائيا تجاه الكيان الإسرائيلي، ما يخلق واقعا مريحا حتى إن لم تكن هناك بينهما علاقات رسمية معلنة. وفي الصومال ارتبط اسم دولة الاحتلال في السنوات الماضية باتصالات واهتمام متزايد بكيان غير معترف به دوليا، في إطار سعيها لتوسيع نفوذها في القرن الافريقي.
وقوع الدولتين على الممرات البحرية الحيوية، جعل السيطرة عليهما من خلال تفكيكهما يمثل أولوية استراتيجية للأمن الإسرائيلي، الذي يسعى منذ سنوات إلى تحييد أي تهديد محتمل لحركة الملاحة، سواء أتى من دول قوية أو من فواعل غير دولية. هذا النموذج في الحالتين، يخدم الاحتلال بوضوح، لأنه يضمن غياب أي كتلة سياسية أو عسكرية عربية موحدة قادرة على التأثير في معادلة البحر الأحمر، ويحول المنطقة إلى كانتونات صغيرة قابلة للاحتواء. استمرار اليمن في استنساخ التجربة الصومالية يهدد المنطقة بأكملها إلى فضاء مفتوح للصراعات منخفضة الحدة، فلا حرب تحسمها ولا سلام يبنيها، تلك البيئة المعلقة هي البيئة المثالية لإدارة النفوذ الأجنبي المتمثل في دولة الاحتلال وحلفائها.
التجربة الصومالية أثبتت أن التقسيم لم يعد بحاجة إلى إعلان رسمي. يكفي تفكيك مؤسسات الدولة، وتعدد مراكز القوة، وخلق اقتصاديات أمن محلية، حتى تصبح الدولة مجرد اسم. واليمن اليوم يقف على العتبة ذاتها، فاستمرار تحركات المجلس الانتقالي خارج إطار وطني جامع، ومع غياب مشروع سياسي شامل، يفتح الباب أمام جنوب مرتبط بوظيفة جيوسياسية أكثر من ارتباطه بإرادة شعبية جامعة. هذه الهندسة الإقليمية التي تجري في اليمن والصومال لصالح الكيان الإسرائيلي، تستوجب وعيا عربيا بخطورة انعكاس الانقسامات الوظيفية على المنطقة بأسرها وتهديد أمنها، وتستدعي موقفا عربيا جامعا وتحركات عملية على أرض الواقع، لمنع هذه الانقسامات التي يمكن أن تنتشر في المنطقة انتشار النار في الهشيم، والضرب على يد أية قوى إقليمية تعمل على هذا التقسيم.



