
من أوكرانيا إلى غزة: إعادة إنتاج الفوضى في نظام دولي ينهار
لطفي العبيدي
حرير- بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ومع نهاية البنية ثنائية القطبية للحرب الباردة التي فرضت تعاونا موحّدا بين الحلفاء الغربيين لمواجهة الاتحاد السوفييتي، افتقرت القوى الغربية إلى عدو واضح، ما صعّب تحديد أهداف متماسكة للسياسة الخارجية والسعي لتحقيقها. ومع مرور الوقت تضاءل ما يحافظ على تماسك النظام الذي يقوده الغرب، ولم تلبث الدول الكبرى في الغرب، أن اكتشفت صعوبة في تحديد أهداف واضحة في ظل عالم جديد يشهد تغيّرا مستمرا في موازين القوى.
ومع بقاء القادة الغربيين في حالة من الغموض، يشهد العالم منذ ذلك الحين تفككا جيوسياسيا واقتصاديا، ليست الحرب الروسية الأوكرانية إلا أحد تمظهراته بمنطق النتائج لا الأسباب. على هذا الأساس، ديناميات عمل حلف الناتو لم تتغير بشكل كبير منذ تأسيسه، مثلها مثل نطاق تركيزه الرئيسي، وهو روسيا الاتحادية. وهذا سبب الأزمة الراهنة في هذا الحلف. فالسياق الدولي، ونمط العلاقات، وطبيعة المصالح تخطت الحلف بشكل كبير، كما أن مصالح الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي باتت متعارضة أكثر من أي وقت في تاريخه.
أزمة في الهيمنة السياسية والاقتصادية، سواء في أمريكا أو في أوروبا، حيث بدأت تظهر تحديات داخلية وخارجية. النخب الحاكمة الغربية تعاني من أزمة وجودية منذ فترة طويلة، أدّى التأثير المدمّر للحرب العالمية الأولى إلى نشوء أزمة ثقة لدى هذه النخب، تراوحت بين المد والجزر منذ ذلك الحين. وقد غذى هذا دوامة لا تنتهي من النعي الجيوسياسي عبّر عنه كتّاب كثيرون على غرار عالم الاجتماع فرانك فوريدي في كتابه «الحرب العالمية الأولى: لا نهاية في الأفق». لذلك ازدادت حدة الخلافات حول السياسات الاقتصادية والاحتكاكات بين الدول، لاسيما داخل الكتلة الغربية القديمة. وساعدت الانقسامات الاقتصادية والسياسية، مثل أزمة الاتحاد الأوروبي، ونشوء التكتلات الاقتصادية العالمية، على تشكيل عالم متعدد الأقطاب أكثر تعقيدا من السابق. من الناحية الجيوسياسية، انتهت فترة الأحادية القطبية الأمريكية القصيرة، التي أعقبت الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي. ومن غير المرجح أن تعود ما تسمّى «الاستثنائية الاقتصادية الأمريكية» التي روّج لها كثيرون، رغم أنّ الولايات المتحدة، بآلتها العسكرية الضخمة، والدولار الذي لا يزال عملة احتياطية عالمية، اللاعب الأكبر في العالم. لكنها الآن لاعبٌ إلى جانب العديد من اللاعبين الآخرين. أما التحولات الجيوسياسية والانقسامات الاقتصادية التي أبرزها ترامب منذ عودته إلى الحكم، فهي مستمرة منذ سنوات وليست مستحدثة. وأيًّا كان التشكيل الناشئ الآن فلن يُمثل قطيعة تامة مع الماضي.
في شأن مقاربته للصراع في غزة وأوكرانيا، النمط هو نفسه لدى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. ويتمثل في الانحياز لطرف القوة العسكرية المهيمنة مع تجاهل مصالح الطرف الآخر في النزاع إلى حد كبير. ويبدو أنّ ترامب يرى أنّ تشجيع الطرف القوي على تحقيق هدفه في سحق الطرف الضعيف هو الطريق الأسرع لإنهاء الحرب، وشيء يمكن تصويره على أنّه سلام. إحدى تلك الحالات هي «خطة السلام» المؤلفة من 20 نقطة لغزّة، التي قدّمها ترامب الذي يتوق علنا للفوز بجائزة نوبل للسلام. ترامب ذهب بعيدا في تشويه مفهومي «اتفاق السلام» و»الوساطة». فهو ينسب لنفسه الفضل في أي خطوة يمكن تصويرها، ولو بشكل متكلّف على أنّها انتقال من الحرب إلى السلم، ما دامت له بها صلة مهما كانت ضعيفة أو غير مباشرة. في ما يتعلّق بالمسألة الأساسية المتصلة بما إذا كان الفلسطينيون سيحظون يوما بحق تقرير مصيرهم، ناهيك من إقامة دولتهم، فإن إجابة خطة ترامب التي ادعى أنها للسلام هي «لا».
السلطة المسيطرة ستكون مجلسا يرأسه شخص متمركز بوضوح في معسكر إسرائيل أي ترامب نفسه. وستستمر الأهداف الإسرائيلية في إبقاء الفلسطينيين دون دولة، يجب ألا ينخدع العالم إذن، فالإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل لم تنتهِ بعد. وبات واضحا الآن أن وقف إطلاق النار في غزة ليس سوى «خفضٍ للنار» كما جاء في تعبير «الغارديان» البريطانية. فالعدوان مستمر والهجمات على القطاع تكاد تكون يومية. والنتيجة أن سكانا دُمّرت منازلهم وسبل عيشهم وملاجئهم ما زالوا ممنوعين من تأمين خيام أكثر أمانا أو غذاء كافيا. وفي كل هذا تُبقِي سلطة الاحتلال الإسرائيلية سكان غزة في حالة عذاب معلّق، استمرارا للعقاب الجماعي، ومنعا لقيام أي ظروف للحياة الطبيعية، وترسيخا لإسرائيل كسلطة مطلقة لا تُحاسَب. الرئيس الأمريكي الوحيد الذي حصل على جائزة نوبل للسلام لدوره في الوساطة كان ثيودور روزفلت. نجح في التوسط لإنهاء الحرب الروسية – اليابانية بين 1904 و1905. وكان ذلك دورا حقيقيا في تقدير «ناشيونال إنترست»، حيث تم تمثيل الطرفين المتحاربين بالكامل في المفاوضات، واعترفت الولايات المتحدة بمصالح وأهداف كلا الجانبين. واستضافت أمريكا الوساطة في بورتسموث، نيوهامشير، التي أسفرت عن معاهدة سلام أنهت الحرب. ترامب وإن حصل على جائزة سلام، فهي مجاملة مكشوفة لا يستحقها. حقيقة، لا يمكن لعقل واقعي أن يتوقّع أمام هذا الوضع في الشرق الأوسط، أي سلام، لا في فلسطين ولا في المنطقة التي تعربد فيها إسرائيل كما تريد. وقد يكرر الوسطاء خطاب الهدن المتدرجة وخطط الإعمار، لكن الحقيقة أن هذه خطط لمستقبل لن يظهر ما لم تتوقف إسرائيل عن أفعالها غير القانونية في أراضٍ لا تمتلك أي حق فيها. حتى ما سُمِّي بـ»اتفاقات إبراهام» التي ظهرت خلال ولاية ترامب الأولى، لم تكن في الحقيقة اتفاقات سلام على الإطلاق، بل مجرّد رفع للعلاقات الدبلوماسية مع دول عربية لم تكن في حالة حرب مع إسرائيل، وكانت أصلا تربطها بها مستويات واسعة من التعاون وإن كانت غير معلنة. أما الأثر الصافي لهذه الخطوة على السلام في الشرق الأوسط فكان سلبيّا، إذ رأت إسرائيل في هذا التطبيع بديلا عن صنع السلام مع الفلسطينيين، وقاعدة لبناء تحالف عسكري مناهض لإيران.
في فترة ترامب الأولى، قدّم الأخير الكثير من الهدايا لحكومة نتنياهو، أقلّها نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والاعتراف بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان السورية المحتلة، وخطوات مماثلة مخالفة جميعها للإجماع الدولي. أما في فترة رئاسته الثانية، فقد قدّم دعما دبلوماسيا وعسكريا غير مسبوق لهجوم إسرائيل المدمر على قطاع غزة، بما في ذلك مساعدات مادية ضخمة للجيش الإسرائيلي. ساعد هذا الدعم تل أبيب على إلحاق قدر هائل من الدمار بغزّة. وبعد توقف حرب الإبادة، لم تكن هناك أية مشاركة فلسطينية فعلية في صياغة «خطة السلام» لترامب، بل تواصل استخفافهم بالشعب الفلسطيني ويرغبون في إخضاعه عبر الوصاية.
في المحصلة، طالما أن إسرائيل تخضع الفلسطينيين بالقوة، ستستمر المقاومة الفلسطينية، تماما كما كان الحال لسنوات عديدة قبل وجود حركة حماس. وجود المقاومة يساوي عدالة القضية، والتحرر مطلب لدى كل مضطهد يخضع للاحتلال.



