
ترامب و”الثور في متجر الخزف”
أسامة أبو ارشيد
حرير- في يناير/ كانون الثاني 2017، وقبل أقل من أسبوعين على تولي الرئيس الجديد المنتخب حينئذ، دونالد ترامب، عهدته الرئاسية الأولى، أصدر مجلس أتلانتيك، البحثي الأميركي، تحليلاً يتساءل فيه عما إذا كان ترامب سيكون بمثابة “الثور في متجر الخزف”؟ (A bull in a china shop). كان ذلك التحليل على خلفية تهديدات اقتصادية أطلقها الرجل ضد الصين، ثاني أكبر اقتصاد دولي، المتشابك عضوياً مع الاقتصادين، الأميركي والعالمي، وهو الأمر الذي كان من شأنه إيجاد أزمة اقتصادية عالمية وأميركية. ثماني سنين بعد ذلك، وتحديداً في فبراير/ شباط، أي في عهدته الرئاسية الثانية، شبّه قاضٍ فيدرالي ترامب بـ”الثور في متجر الخزف” على خلفيه إقالته أحد المفتشين العامين، ممن يعملون بصفة جهات رقابية مستقلة داخل الوكالات الفيدرالية، وكان ترامب قد أقال 17 منهم حينها.
“الثور في متجر الخزف” مثل إنكليزي يستخدم للدلالة على شخص يتصرّف باندفاع أو تهوّر أو عدوانية أين يتطلب الموقف الحذر والتلطف، الأمر الذي يترتّب عليه فوضى وتخريب وأذى. ولكن، إذا كان الثور يتصرّف بدافع غريزي عاجز عن الإدراك، بحيث يحطم كل شيء حوله، إذا ما حوصر في متجر للخزف، فإن ترامب يبدو كمن يجمع بين الحسِّ الغريزيِّ العدوانيِّ المتهور والفوضى المُهَنْدَسَةِ، بغرض إحداث تغييرات جذرية في السياستين الداخلية والخارجية، متجاهلاً كل ما يعد أعرافاً راسخة أو حساسيات قائمة. وتُساعد ترامب على ذلك ميزتان، قليلا ما تتوفران في شخص في وقت واحد. الأولى أن لديه جلداً سميكاً، حيث إنه نادراً ما يتأثر بالانتقادات أو محاولات إحراجه، وهو الأمر الذي تلخصه عبارة تقال في وصفه: “كيف تجعل شخصاً لا يَخْجَلُ يَخْجَلْ؟”. أما الثانية، نجاحه في تشكيل هالة حوله بين قاعدته وأتباعه، بغضّ النظر أكان ذلك قناعة به، أم طمعاً برضاه، أم خوفاً من سُخطه، بحيث إن كل ما يفعله مُبرّر في أعينهم أو يمكن التغاضي عنه. ومن المفارقات الصارخة تلك الاجتماعات التي يعقدها ترامب لحكومته في البيت الأبيض في بثٍّ حيٍّ ومباشر موزّعاً الحديث على وزرائه الذين يلوكون الكلام مراراً وتكراراً، في مديح ذكائه وعظمته واستثنائيته في حالة من المنافقة المخزية يحسُده عليها زعماء دكتاتوريون نرجسيون، مثل الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون.
الخطورة في حالة ترامب مضاعفة، لا يرقى إلى مستواها خطر آخر، إذ إنه زعيم الدولة العظمى، التي يمكنها إحداث فوضى لا مثيل لها في العالم كله، مع إضافة جديدة هنا، أن ترامب لا يتورّع حتى عن إحداث الفوضى في بلاده نفسها. من ذلك، حديثه المتكرّر إنه قد يترشّح لولاية رئاسية ثالثة، رغم أن الدستور لا يخوّل له هذا. ومن ذلك، استهدافه خصومه السياسيين عبر أجهزة إنفاذ القانون وبالقضايا الكيدية. ومن ذلك، تعدّيه على كل القيم الأميركية المُدعاة ومحاولاته ضعضعة أسس الديمقراطية الأميركية ليحكم بوصفه دكتاتوراً. ومن ذلك، محاولاته تطويع القوة الأميركية ليستفيد منها هو وعائلته وشركاؤه مالياً. إلخ. غير أن النظام السياسي الأميركي وإرثه العريق يتيحان أدوات وإمكانيات للجم نزوات ترامب وجموحه، وحتى طيِّ صفحته في لحظة ما. أو على الأقل يمكن القول إن هذا منتج أميركي ومشكلة أميركية هم مسؤولون عنها وعن حلها داخلياً. … ولكن ماذا عن الفوضى والكوارث التي يُحدثها ترامب خارجياً؟
منذ عودته إلى الرئاسة مطلع العام الجاري، يتصرّف ترامب في سياسته الخارجية كـ”الثور في متجر الخزف”. قطاع غزّة ولبنان وإيران ونيجيريا وفنزويلا وأوكرانيا والمعارك الجمركية مجرّد شواهد على ذلك. وكما سبقت الإشارة، ليس ترامب مجرد ثور هائج بالمعنى الفطريِّ الغرائزي، بل ثمَّة مزيج آخر مُهَنْدَسٌ حاضر لديه، ويتماشى جزءٌ منه مع الحسابات الإمبراطورية في السياسة الخارجية الأميركية، كما في السطو على المعادن النادرة في أوكرانيا، أو احتياطات النفط الهائلة في فنزويلا، أو قناة بنما الرابطة بين المحيطين الأطلسي والهادئ، والتي تعدُّ من أهم القنوات العالمية.
ولكن السؤال الأهم: هل منطق البلطجة الأميركية علامة تجارية خاصة بترامب ومنتج حصريٌّ له؟ الجواب، ومن دون تعقيدات: قطعاً لا… غير أن ترامب يكشف عن ذلك الوجه القبيح بفجاجة، فضلاً عن أنه نقله من السياسة الخارجية إلى الداخل الأميركي، وهذا هو ما يزعج المؤسسة الأميركية تحديداً، على أساس أن السمَّ الزعاف، أو الدواء المرِّ صُنِعَ أميركياً للآخرين، لا لكي تتجرعه هي نفسها.



