هل تستطيع «الرباعية» وقف حرب السودان؟

د. الشفيع سعيد

حرير- نبدأ بالمختصر المفيد، والذي لم نتزحزح عنه في كل كتاباتنا، وهو أن أزمات السودان لا يمكن أن تحل من الخارج وبمجهود المبادرات الخارجية، ولكن حتما تلعب هذه المبادرات دورًا هاما، وإن كان محدودا ومساعدا. والخارج لا يمكنه فرض حلول حاسمة توقف حرب السودان، ولا يمكنه أن يحل محل الإرادة السياسية السودانية، بل إن أي دور يلعبه لن يؤتي ثماره إلا متى ما توفرت هذه الإرادة الداخلية.

والحدود التي تتحرك داخلها المبادرات الخارجية تقتصر على الوساطة خلق مساحات للحوار عبر توفير منصات محايدة يصعب توفرها محلياً في ظل حالة العداء والاقتتال المحتدم بين الأطراف المتحاربة، مثل منبر جدة، واقتراح المسارات التفاوضية وتيسيرها، وتقديم الضمانات، وتوفير وتنسيق المساعدات الإنسانية. وبممارستها الضغط الأخلاقي والسياسي والاقتصادي على الأطراف المتحاربة، تساهم المبادرات الخارجية في رفع كلفة الاستمرار في الحرب، وهي تلعب الدور الرئيسي في تنفيذ الحظر الشامل على مصادر تمويلها ومصادر تدفق الأسلحة من الخارج، وكذلك الدور الرئيسي في تفعيل الآليات الدولية لفرض وقف إطلاق النار وفرض الهدن وحماية المدنيين وتوفير الآليات الضرورية لمراقبة الخروقات، وربط وقف إطلاق النار بمساعدات إعادة الإعمار، مما يشكل حافزاً قوياً إذا تم تقديمه بشكل واضح ومشروط.

لكن، إقرارنا وترحيبنا بهذا الدور الإيجابي لمساهمات المبادرات الخارجية تجاه الأزمة والحروب في بلدنا، وأنها قد تحقق متنفّسا نحتاج إليه، لن يعمينا من حقيقة أن ما تقدمه هذه المبادرات من حلول، بحسب تجربتنا في السودان وفي دول أخرى، كسيراليون وساحل العاج ومالي وأفريقيا الوسطى والعراق وليبيا وإثيوبيا…الخ، تظل حلولا مؤقتة وهشة، تتفجر تشظياتها من حين لآخر لتعيد إنتاج الأزمة، وذلك لأنها تركز على شكل وتجليات الأزمة وليس جذورها وجوهرها، فتتعامل مع وقف إطلاق النار مثلا كهدف نهائي، متجاهلة المطالب السياسية العميقة، وتركز على هيكل الحكم وتقسيم السلطة بين الأطراف المتحاربة، وتعطيهم شرعية زائفة على حساب القوى المدنية، فتزيد من تعقيدات الواقع المتأزم أصلا.

وبالنسبة للمبادرة الرباعية تجاه حرب السودان، فقد كتبنا من قبل أن لديها أقوى الأدوات لفرض وقف إطلاق النار وتحقيق الهدنة الإنسانية. فهي تتميز بالوزن الجيوسياسي والمالي، حيث تجمع بين القوة العظمى في العالم وثلاث من أقوى الدول الاقتصادية والدبلوماسية في المنطقة، وكلها لها مصالح حيوية وتحالفات داخل السودان، وتمتلك أدوات ضغط فعالة يمكنها توجيهها لكلا الجانبين المتقاتلين، مثلما تملك إمكانات هائلة تمكنها من تقديم حوافز آنية ووعود مستقبلية، كإعادة الإعمار والاستثمار، أو فرض عقوبات قاسية ومشددة على أطراف القتال. لكن، ورغم كل ذلك، فإن فاعلية المبادرة الرباعية مقيدة بتحديات يمكن أن تعيق هدفها الرئيسي في تحقيق وقف مستدام لإطلاق النار. وأكبر تحد هو أن لمكونات الرباعية تحالفاتها، غير المعلنة، مع أطراف القتال، وبعضها يتبنى الصراع بالوكالة. وهذا يعني بدلاً من أن تضغط الرباعية بشكل موحد وباتجاه واحد، فإن هذا الوضع قد يؤدي إلى «تحييد» جهود مكوناتها، حيث أن أي ضغط على أحد الطرفين قد يقابله دعم خفي من عضو آخر في الرباعية. والتحدي الثاني هو تضارب الأولويات وتعارض المصالح بين أطراف المبادرة، فبعضها يرى في وجود حليف من أطراف القتال قد يفوز في النهاية، حماية لمصالحه الجيوسياسية والأمنية الطويلة الأمد.

ومن الواضح أن المبادرة تجد صعوبة، أو بعض مكوناتها قد لا ترغب في استخدام كامل نفوذها بشكل حاسم، في وقف الدعم الخارجي، غير المعلن، من الجهات الإقليمية للأطراف المتقاتلة، رغم أنها إذا اتحدت يمكنها أن تقطع شريان الحياة، التمويل والسلاح والدعم السياسي، عن هذه الأطراف، ولكن ذلك يعني خسارة نفوذ هذا المكون على الطرف الذي يدعمه، وتحمل تبعات انهياره. ولذلك، قد تفضل هذه المكونات «إدارة» الأزمة على حساب «حلها» بشكل قاطع، فالحل القاطع قد لا يخدم مصلحتها المباشرة. وعلى الرغم من كل هذه التحديات، فإن المبادرة الرباعية يمكنها إسكات البنادق وفرض الهدنة الإنسانية المؤقتة كمدخل لوقف الحرب، والحفاظ على قنوات اتصال مفتوحة مع جميع الأطراف، ولكن فقط إذا قررت التنسيق بشكل حقيقي ووضعت إنهاء الحرب كهدف أول فوق المصالح وجميع الاعتبارات الجيوسياسية الأخرى.

أما العامل الأهم والأكثر حسماً، وبدونه لا يمكن أن تتوقف الحرب نهائيا ولا يمكن أن تنعم البلاد بحل مستدام لأزماتها، فهو العامل الداخلي، والذي تطلع به القوى المدنية السودانية. ولقد ناقشنا، وكررنا النقاش، في عدة مقالات سابقة، دور القوى المدنية في صياغة الرؤية المطلوبة لوقف الحرب، وأنه يقع على عاتقها تقديم الإجابات الناجعة لعدد من الأسئلة المصيرية، حول إعلان المبادئ، ومستقبل الدعم السريع، ومستقبل قيادة الجيش الراهنة، ومستقبل العملية السياسية ودورها في تصميمها وقيادتها، وغير ذلك من الأسئلة. ونضيف اليوم، أن القوى المدنية السودانية يمكنها أن تخلق وضعاً يجعل تكلفة الحرب غير محتملة، ولا يمكن للمتحاربين التعايش معه والاستمرار فيه، وذلك من خلال الضغط الشعبي وتنظيم الاحتجاجات السلمية المطالبة بوقف الحرب، ورفض التعاون مع آليات الحرب، وتأسيس هياكل إدارية على المستوى المحلي تثبت أن هناك بديلاً عن سلطة السلاح…، وقبل كل ذلك، تشكيل جبهة مدنية موحدة ضد الحرب. عندها فقط، وعندما تدرك الأطراف المتحاربة أنها لن تنتصر عسكرياً وأنها تخسر شرعيتها ومصادر قوتها الداخلية، ستصبح أكثر استعداداً للاستجابة للمبادرات الخارجية الجادة التي تضع إطاراً شاملاً لوقف إطلاق النار، تمهيدا لفتح مسار سياسي حقيقي ينتقل بالسودان من حكم العسكر إلى الحكم المدني الديمقراطي.

ومثلما بدأنا المقال بالمختصر المفيد، نختم به لنؤكد أن للخارج، والمبادرة الرباعية، دورا مكملا ومساندا، لكن العامل الأساسي والحاسم يكمن في الداخل، وبدون إرادة شعبية سودانية قادرة على فرض وجودها، ستستمر الحرب بإرادة السودانيين المتحاربين.

مقالات ذات صلة