الرجل التريليوني وغزة وما بينهما

د. صبري صيدم

حرير- يتحول اسم إيلون ماسك يوماً بعد يوم إلى مرادف للجدل العالمي، إذ استطاع الرجل أن يحجز لنفسه مقعداً فريداً في سجل التاريخ الاقتصادي، كأول من اقترب من جمع تريليون دولار كقيمة إجمالية لثروته الشخصية، متجاوزاً حدود ما يمكن أن يبلغه عقل أو يتصوره خيال.

فبمهارته في تسويق ذاته كرائد للابتكار والتكنولوجيا، وبقدرته على إثارة الإعلام وخلق العناوين المثيرة، رسّخ ماسك صورته كـ»الرجل التريليوني»، الذي لا تحده القوانين التقليدية للأسواق ولا توقفه خسارات مرحلية، بل يوظفها ليعود أقوى وأشهر وأكثر نفوذاً، يستثمر ماسك كل حركة وكل تصريح ليبقى في مركز دائرة الضوء، فيغرد في وقت الأزمات، ويعلن أفكاراً تبدو خيالية، ثم تتحول إلى واقع تجاري يغير قواعد اللعبة.

إيلون ماسك يدرك أن الشهرة ليست نتيجة النجاح فقط، بل أداة لصناعته، لذلك نراه يدير شركاته، كما يدير حملة علاقات عامة دائمة، تجمع بين الجموح التقني والإثارة الشخصية، وتستثمر في كل لحظة يأس أو أمل تمر بها الأسواق، ليبقى الاسم الأكثر تداولاً في الإعلام المالي والتكنولوجي على حد سواء.

يواصل ماسك رهانه الأكبر على تسلا بوصفها جوهرة تاج إمبراطوريته، حيث وضع مجلس إدارة الشركة شرطاً غير مسبوق يمنحه مكافأة التريليون دولار فقط إذا تمكن من رفع أرباح تسلا إلى ثمانية تريليونات دولار، وهو هدف يبدو للبعض ضرباً من الخيال، لكنه بالنسبة لماسك تحدٍ يليق بشخصيته المتمردة على المنطق.

ومع ذلك فإن الواقع يطرح تساؤلات صعبة حول قدرة تسلا على الصمود في مواجهة المنافس الصيني، الذي يزحف بسرعة نحو القمة، حاملاً راية السيارات الكهربائية منخفضة التكلفة عالية التقنية، يستشعر المستثمرون أن الصين باتت تملك نَفَساً طويلاً في سباق البطاريات والذكاء الصناعي والتصنيع الدقيق، بينما تواجه تسلا ضغوطاً هائلة في خفض الأسعار، وتحسين الأداء في وقت واحد، مما يجعل حلم الثمانية تريليونات محفوفاً بالمخاطر، فالسوق لم تعد حكراً على العبقرية الفردية، بل ميداناً تتقاطع فيه السياسات والمواد الخام وسلاسل التوريد والتحالفات الدولية، وكلها عناصر قد تقيد حركة الرجل، الذي لطالما تغذى على فكرة الحرية المطلقة في القرار.

يُضاف إلى مشهد التريليونات، ذلك الخيط الدرامي الذي يجمع بين دونالد ترامب وإيلون ماسك، إذ بدأت العلاقة بين الرجلين بإعجاب متبادل وتفاهم سياسي واقتصادي واضح، فترامب رأى في ماسك تجسيداً للحلم الأمريكي وعبقرية السوق الحرة، بينما وجد ماسك في ترامب رئيساً يمنح الفضاء لريادة الأعمال ويؤمن بالرموز الخارجة عن المألوف، لكن سرعان ما تحولت المودة إلى عداوة حين انتقد ماسك سياسات ترامب بعد أحداث الكونغرس واتهمه بتأجيج الانقسام، فردّ ترامب عليه بهجوم لاذع، واصفاً إياه بالمغرور الذي يعيش على دعم الدولة.

العالم فوجئ وخلال زمن قياسي قصير بعودة الدفء إلى العلاقة بين الرجلين في الأشهر الأخيرة، وسط همسات تتحدث عن صفقة كبرى قد تكون وراء هذا الوفاق الجديد، صفقة يُعتقد أنها تمهد لماسك طريقه نحو التريليون الأول، عبر تفاهمات اقتصادية واستثمارية تتقاطع فيها مصالح السياسة مع التكنولوجيا والمال، وتعيد رسم ملامح التحالفات في عالم تتبدل فيه المواقف بقدر ما تتغير قيم الأسهم والأسواق. يقرأ البعض التحركات الأخيرة لماسك في ضوء السياسة الدولية المتشابكة، إذ تتزامن طموحاته المالية مع تصاعد الحديث عن مبادرات لإعادة إعمار غزة، حيث يسعى الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لتشكيل مجلس عالمي لضخ الأموال في هذا المشروع الضخم، وسط حديث عن مشاركة شركات تكنولوجية كبرى لتوفير البنية التحتية الذكية، والإشراف التقني على عمليات الإعمار، وهو ما يفتح الباب أمام تساؤلات حول إمكانية أن يكون ماسك جزءاً من هذا التوجه، أو مستفيداً منه عبر تقنياته في الطاقة والاتصال والنقل يطرح هذا التقاطع بين الاقتصاد والتكنولوجيا والسياسة أسئلة عن الدور الذي يمكن أن يلعبه رأس المال، في رسم خرائط الإعمار والسلام، فهل يكون الرجل التريليوني أحد أدوات إعادة تشكيل الشرق الأوسط اقتصادياً، أم مجرد مستثمر يبحث عن فرص جديدة في زمن الخراب؟

السؤال الثاني يتمحور حول مدى إمكانية أن تتحول مشروعات ماسك إلى غطاء ناعم لمصالح القوى الكبرى الباحثة عن نفوذ في المنطقة؟ حقيقة الأمر تكمن في كون الرجل يتعامل مع العالم كمختبر مفتوح لأفكاره ومشاريعه، ولا يستبعد أي ساحة أو أزمة من خريطة اهتمامه، فهو يدرك أن المستقبل ملك لمن يجرؤ على اقتحام المجهول. ومع كل خطوة يخطوها نحو التريليون، يزداد الغموض حول حدود طموح ماسك وحقيقة نواياه، فإيلون الذي انطلق من وادي السيليكون لا يتحدث بلغة المال فقط، بل بلغة السلطة والتأثير، وكأنه يهيئ نفسه ليكون ليس مجرد أغنى رجل في العالم، بل أكثرهم قدرة على توجيه مساراته.

وفي النهاية يبقى السؤال مفتوحاً: هل سيكتب لإيلون ماسك أن يحقق حلم التريليونات، أم أن النظام المالي العالمي سيضع له حدوداً كما وضعها لغيره؟ وإن تحقق الحلم، فهل سيستخدمه لبناء مستقبل أكثر إنسانية أم لتعميق الفجوة بين من يملكون ومن ينتظرون؟ ذلك هو الرجل التريليوني، حكاية تتجاوز المال إلى فلسفة القوة، وتثير فينا السؤال الأبدي: من يملك العالم حقاً؟ وهل تحمل ظاهرة ماسك نتائج أغرب من الشخص ذاته؟ ننتظر ونرى!

مقالات ذات صلة