هذا الابتكار الصيني

طلال أبو غزالة

حرير- لطالما عُرف الذهب من عيار 24 بصفته معدناً ثميناً يتميّز بنقائه العالي الذي يصل إلى 99.9%. وهي نسبة تعتبر المعيار العالمي للذهب الخالص، لكن هذا النقاء، الذي يعشقه المستثمرون والبنوك المركزية، ترافقه ليونةٌ ملحوظةٌ، وهي خاصية تُصنِّف الذهب الخالص معدناً ذا صلابة منخفضة نسبياً، ما يجعله عرضةً للخدش والتآكل والتشوّه بسهولة عند استخدامه في تطبيقات تتطلّب متانةً ميكانيكية، خصوصاً في صناعة المجوهرات. ولطالما شكّلت هذه الهشاشة الميكانيكية تحدّياً جوهرياً لصُنّاع المجوهرات الراغبين في تحقيق تصاميم معقّدة أو دقيقة أو حتى خفيفة الوزن، ومن هنا، تدخّلت التكنولوجيا الصينية، بخطواتها المتسارعة في الابتكار الصناعي، لتقدّم حلّاً لهذه المعضلة الفيزيائية عبر تقنية جديدة ومختلفة.

أخيراً، أُعلن ابتكار أُطلق عليه اسم الذهب الصلب النقي (Hard Pure Gold). وقد تجاوز مرحلة الأبحاث ليصبح حقيقةً صناعية، إذ تبنّته الحكومة الصينية معياراً رسمياً في مايو/ أيار 2025. ولاحقاً، رُوِّج لهذه التقنية الجديدة في الأسواق العالمية من كيانات مؤثّرة مثل مجلس الذهب العالمي، خاصة في مراكز التجارة الكبرى مثل هونغ كونغ. هذا التطوّر لا يمثل مجرّد تعديل بسيط، بل هو محاولة هندسية جريئة لكسر قيود فيزيائية قائمة منذ قرون، لأنه يمثل إجابة تقنية عن السؤال الذي طالما أرّق الصناعة: هل يمكن أن يجمع عيار 24 بين النقاء الفائق والقوة الميكانيكية؟ لقد نجح الرهان الصيني في تقديم هذا الحلّ، إذ يُحافِظ على مستوى نقاء يظلّ عند 99.9%، ولكنه يُحقق صلابة تزيد بأكثر من أربعة أضعاف صلابة الذهب الخالص العادي.

وعليه، يسجل الابتكار الجديد قوةً ميكانيكيةً تصل إلى 60 درجة في مقياس فيكرز، وهي قفزة نوعية في متانة المعدن الأصفر، لا سيّما أن هذه الصلابة الهائلة، التي لا تضر بصفة النقاء، تحقّقت عبر عملية هندسية دقيقة تُدخل فيها كميات ضئيلة للغاية لا تتجاوز 1% من التركيب الكلي لمعادن نادرة وغريبة، مثل الإنديوم والزنك، أو غيرها من المضافات الميكروية. طبعاً، لا تُعتبر هذه الإضافات شائبةً تقليديةً تُنقص من عيار الذهب، بل هي عوامل تقوية تعمل على تعديل البنية البلورية للذهب على المستوى المجهري فتعزّز الصلابة الميكانيكية للمادّة، ممّا يجعلها أكثر مقاومة للخدش والتآكل والتشوّه من دون المساس بالميزة الكيميائية للذهب الخالص.

ويبدو أن هذا المزيج الجديد سيفتح آفاقاً لم تكن متاحةً من قبل أمام مصمّمي المجوهرات وصنّاعها في القفز على قيود الليونة التي كانت تكبّلهم بما يمكّنهم من نسج تصاميم أكثر تعقيداً ودقّة، أشبه بالهياكل الشبكية، من دون الخوف من انهيارها أو تشوّهها، كما يسمح بتقليل وزن القلائد والخواتم، فتصبح أخفّ وزناً، وبالتالي أكثر راحة، وفي الوقت نفسه أكثر مقاومةً للخدش من سابقتها الثقيلة. وهنا القيمة المضافة الحقيقية: إنتاج مجوهرات لا تقتصر على الفخامة، بل تتسم بالعملية والقدرة على البقاء والاستدامة، وهو ما يمثل نقطةَ تحوّل كبرى في سوق التجزئة الذي يميل أكثر فأكثر نحو المنتجات المُعمِّرة وذات الجودة العالية.

لكن الضجيج الذي صاحب هذا الإعلان لم يقتصر على عالم الجمال والمجوهرات، بل امتدّ ليلامس التكهّنات حول الاقتصاد العالمي، وتحديداً سعر الذهب. إذ سرعان ما انتشرت آراء تفترض أن هذا الابتكار سيغرق الأسواق ويؤدّي إلى انهيار الأسعار. ولا يعدو أن يكون هذا التفسير، بكل صراحة، وهماً مريحاً يفتقر إلى البنية التحليلية السليمة، فالذهب، أصلاً استثمارياً عالمياً، لا يستمدّ قوته من متانة المجوهرات المُصنّعة منه أو ليونته، بل إن سعر الذهب هو في الأساس مرآة للخوف العالمي وعدم اليقين الاقتصادي، أي أنه مدفوع بعوامل اقتصادية بحتة، أهمها التحوّط من التضخّم وتقلّبات العملات، إلى جانب سياسات البنوك المركزية التي تراكم الاحتياطيات. إذن، الابتكار هو مجرّد تعديل في طريقة مزج الذهب وتصنيعه في غرفة العمليات الهندسية، وليس اكتشاف منجم جديد لا ينضب تحت جبال الصين. لذلك، فإن كمّية الذهب الخام المتوفّرة في العالم لم تتغيّر، وكذلك بقي الطلب الاستثماري عليه، مدفوعاً بالحاجة إلى التحوّط. ومن يراهن على أن هذا الذهب الصلب سيجعل سعر المعدن الأصفر يهوي، مخطئٌ تماماً. فالابتكار لا يتعلّق بزيادة المعروض من المعدن الخام، بل بتحسين استخدامه وتنافسيته في قطاع محدد، وهو قطاع المجوهرات.

وعليه، سيبقى الذهب في نظر البنوك المركزية والمستثمرين الكبار الذين يفضّلونه أصلاً لحفظ القيمة، هو السبائك القياسية التي لا يهمّها سوى الوزن والنقاء الفائق (عيار 24)، من دون أدنى اهتمام بـدرجة “فيكرز” أو القوة الميكانيكية. وهذا التمييز الجوهري بين وظيفة الذهب أصلاً استثمارياً، ووظيفته مادّةً خام للتصنيع، يجب أن يبقى حاضراً عند قراءة أيّ خبر يتعلّق بالذهب؛ فمكانة الذهب الاستثمارية محصّنة ضدّ هذه التغييرات التقنية. ومع ذلك فإن هذا التطوّر يضع قطاع صياغة المجوهرات على أعتاب مرحلة جديدة، إذ يمكن إنتاج تصاميم كانت تعتبر مستحيلة أو غير عملية سابقاً، وسيضيف إليه دمغة من الصلابة والمتانة لم يكن يملكها من قبل.

وربّما تكتسب المجوهرات المصنوعة منه ارتفاعاً في أسعارها في أسواق التجزئة، لكن هذا الارتفاع سيكون ثمناً للقوة والجمال المضاف، وليس مؤشّراً على أي اضطراب في أسواق المال.

سيكون بريق الذهب الصيني الصلب في واجهات المتاجر دليلاً على الجودة المبتكرة، لا على الوفرة الرخيصة، وهذه هي القصة الحقيقية التي تستحق أن تُروى وتُحلل بعمق.

مقالات ذات صلة