
في عيدها الثمانين: هل الأمم المتحدة على وشك الإفلاس؟
عبد الحميد صيام
حرير- في مثل هذا اليوم الرابع والعشرين من شهر أكتوبر قبل ثمانين سنة بالتمام والكمال دخل ميثاق الأمم المتحدة حيز التنفيذ، بعد أربعة أشهر من التوقيع عليه. ثمانون عاما والمنظمة الدولية تتضخم وتلقى عليها المسؤوليات الجسام، في قضايا السلم والأمن الدوليين والتنمية وحقوق الإنسان، أي الأعمدة الثلاثة التي أقيمت عليها المنظمة الدولية.
اتسعت التحديات لتشمل قضايا البيئة وملايين اللاجئين والمشردين، والدول الأقل نموا والدول المغلقة والدول الجزرية المهددة بالغرق، والكوارث الطبيعية، وحقوق السكان الأصليين، وحقوق المهاجرين والتمييز ضد المرأة وتوفير الغذاء والدواء، ومحاربة الأوبئة وتقنين حقوق الطفل وقوانين التجارة والبحار والفضاء الخارجي، ومكافحة العنصرية والإرهاب والجريمة المنظمة والذكاء الاصطناعي وغيرها الكثير. وتوزعت المقرات الرئيسية للمنظمة بين نيويورك وجنيف وفيينا ونيروبي، وافتُتحت لجان إقليمية في بيروت وبانكوك وأديس أبابا وسانتياغو وبروكسل.
تلك المهام الكبرى والمعقدة والمتعددة، تتطلب مبالغ مالية كبيرة، ما أدى إلى ارتفاع ميزانية الأمم المتحدة عشرات الأضعاف. وهذا ينطبق على ميزانية عمليات حفظ السلام التي ارتفعت من 300 مليون دولار لغاية 1989 إلى ثلاثة مليارات بعد انتهاء الحرب الباردة ونشر قوات حفظ السلام في 26 بقعة نزاع، أكثرها ضمن حدود الدولة الواحدة التي تفككت كما حدث في يوغسلافيا السابقة وجمهوريات الاتحاد السوفييتي سابقا، والعديد من الدول الافريقية، إضافة إلى النزاعات الطويلة العابرة للمراحل مثل، فلسطين وقبرص ولبنان والجولان وكشمير والصحراء الغربية والكونغو وغيرها. هناك مئات المآخذ على الأمم المتحدة، خاصة في ميدان السلم والأمن الدوليين، وفشلها في حل كثير من النزاعات. لكننا ندرك أيضا أن قوة الأمم المتحدة من قوة أعضائها، وبمقدار ما يدعمونها ويمكنونها من القيام بمهامها، بمقدار ما تستطيع أن تحقق تلك المهام، أما أن يطلب منها كل تلك المهام، دون أن تعطى الإمكانيات، فلا شك أن الفشل سيكون مصير تلك المهام.
الموقف الأمريكي من الأمم المتحدة في عهدتي ترامب الأولى والثانية، انعكاس للموقف الإسرائيلي فقط. فإسرائيل هي التي تريد تدمير الأونروا ومجلس حقوق الإنسان واليونسكو والمحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية وفرق التحقيق في الجرائم التي ارتكبت وترتكب في غزة، والضفة الغربية ولبنان وسوريا. فليس لمجلس حقوق الإنسان ولا اليونسكو ولا محكمة العدل الدولية، مشاكل مع الولايات المتحدة، بل مع إسرائيل. والذي وقف على منصة الجمعية العامة ومزق ميثاق الأمم المتحدة أمام الدول الأعضاء هو جلعاد إردان، المستوطن الصهيوني برتبة سفير. ومسؤولو الكيان هم الذين طالبوا الأمين العام بالاستقالة، واعتبروه “شخصا غير مرغوب فيه”، وهاجموا فيليب لازاريني المفوض العام للأونروا، وطالبوا توم فليتشر منسق الشؤون الإنسانية، بالاعتذار وألغوا تأشيرات الموظفين الدوليين المكلفين بالعمل في الأرض الفلسطينية المحتلة، وقتلوا أو أعدموا نحو 570 موظفا دوليا ومحليا ومتطوعا من العاملين في المجالات الإنسانية في غزة.
الولايات المتحدة تابعت خطوات إسرائيل حرفيا وزادت عليها. فقد خصص ترامب جزءا من خطابه أمام الجمعية العامة يوم 23 سبتمبر بالهجوم على الأمم المتحدة، واتهمها بالفشل وادعى أنه توصل إلى سبع اتفاقيات سلام في ثمانية أشهر، أكثر من الأمم المتحدة، وهذا افتراء بيّن تحدثت عنه من قبل، لكن الهجمة الجديدة لتدمير الأمم المتحدة تتعلق بالميزانية. السفير الأمريكي قال في كلمة في اللجنة الخامسة، لجنة الإدارة والميزانية، “إن الأمم المتحدة على مدى 80 عاما، ما برحت تضل طريقها وانحرفت بعيدا عن هدفها الأصلي.. لقد تضخمت ولا تركز على هدفها الأصلي، الذي أنشئت من أجله، وأصبحت غير فعالة، بل أصبحت جزءا من المشكلة”. كلمات حق يراد بها باطل. فمن الذي حرف الأمم المتحدة عن أهدافها، ومن عطل برامجها، ومن انتهك ميثاقها ومن الذي لم يعرْ انتباها للقانون الدولي؟ هل قامت دولة بغزو دول أخرى أكثر من الولايات المتحدة؟ وهل هناك من دولة أرسلت قواتها عبر القارات الخمس لتفرض موقفها بالقوة أكثر من الولايات المتحدة؟ ما تريده الولايات المتحدة وإسرائيل من ورائها حتى تكون منظمة عظيمة أن تخدم المصالح الأمريكية والإسرائيلية فقط. وإلا فهي منظمة غير صالحة وغير مجدية. ولذلك لا بد من فرض عقوبات شاملة عليها. قطعت الولايات المتحدة مساهماتها المالية لكثير من مؤسسات ومنظمات الأمم المتحدة، ووضعت ضغطا شديدا على الأمين العام لإعادة هيكلة وتنظيم المنظمة الدولية، وإغلاق العديد من بعثاتها.
لقد حذر الأمين العام يوم 17 أكتوبر، في كلمة أمام اللجنة الخامسة، من خطر الإفلاس، مؤكدا أن المنظمة الدولية تمر بأخطر أزمة مالية في تاريخها، في ظل تقلص الموارد وتزايد الاحتياجات، وأطلع اللجنة على الميزانية المقترحة للمنظمة لعام 2026. وقال إنه قرر أن يخفض الميزانية بقيمة 577 مليون دولار، أي بما يعادل 15% وأن يلغي 2681 وظيفة ما يعادل 19%. وقال إن ميزانية 2027 ستشهد انخفاضا بقيمة 600 مليون دولار أي ما يعادل 20% وهذا يقود المنظمة إلى حافة الإفلاس. هناك دول أخرى قلصت مساهماتها، أو تأخرت كثيرا في دفع حصصها من الميزانية. ففي 25 أبريل 2025 بلغت المستحقات غير المسددة مليارين 419 مليون دولار، وفي أول يوليو 2025 كان العجز في ميزانية قوات حفظ السلام ملياري دولار من مجموع 5.6 مليار دولار. لقد أعادث كثير من الدول هيكلة مساعداتها الخارجية، ما انعكس تقليصا كبيرا في مساهماتها وتبرعاتها للمنظمات الإنسانية، في ظل تفاقم عدد كبير من الأزمات مثل، غزة والسودان واليمن وأفغانستان وميانمار والصومال والكونغو ومالي وهايتي. وهو ما يسمى “إنهاك الدول المانحة”.
يحاول الأمين العام إصلاح المنظمة بما لا يخالف قرارات الجمعية العامة. فقد استعرضت لجنة إصلاح الأمم المتحدة مسودة الخطة للفترة 2026-2028 حيث أوصت الجمعية العامة بالموافقة على ثماني أولويات، تشمل تعزيز النمو الاقتصادي المستدام والتنمية المستدامة، وصون السلام والأمن الدوليين؛ وتنمية افريقيا؛ وتعزيز حقوق الإنسان؛ والتنسيق الفعال لأنشطة المساعدة الإنسانية. أما الأولويات المتبقية فهي تعزيز العدالة والقانون الدولي؛ ونزع السلاح؛ ومكافحة المخدرات ومنع الجريمة ومكافحة الإرهاب الدولي بجميع أشكاله ومظاهره. ومن بين الإصلاحات التي يقوم الأمين العام على تنفيذها، دمج بعض الأقسام وإلغاء أقسام أخرى وترحيل مكاتب وأجهزة من المدن الكبرى مثل نيويورك وجنيف إلى دول أقل تكاليف مثل نيروبي وأديس أبابا وبانكوك. كما سيتم إغلاق بعض بعثات الأمم المتحدة مثل (يونيفيل) في لبنان، التي جددت ولايتها لسنة واحدة وأخيرة. والحديث الآن عن تجديد بعثة (مينورسو) في الصحراء الغربية، لمدة ثلاثة أشهر فقط، كما أغلقت بعثة دولية في مالي. تساهم الولايات المتحدة بقيمة 22% من الميزانية العادية وقيمتها 3.72 مليار دولار (أقل من ميزانية دائرة الإطفائية في نيويورك) والاتحاد الأوروبي 24%، والصين 20%. ولكن الدولة الوحيدة المستفيدة من وجود الأمم المتحدة في أراضيها هي الولايات المتحدة. تخيلوا كم من الأموال تصرفها بعثات دولية لـ194 دولة في نيويورك. أضف ما تصرفه الوفود الزائرة والمؤتمرات الدولية والمشتريات وشركات الطيران والمطاعم والفنادق. إن أفضل حل لأزمة الأمم المتحدة الدائمة هو نقل المنظمة إلى مكان متوسط محايد للتخلص من الضغوطات الأمريكية، لكن الذي سيعارض هذا النقل أولا روسيا، وثانيا الصين، لأسباب لا تخفى على أحد، أولها النفاذ إلى المعلومات وآخرها التوصل إلى التكنولوجيا المتطورة. وهذا ما يبقي أوراق الضغط في يد أمريكا.



