
كرة قدم فلسطين… زريف الطول يوحّد ما فرّقته السياسة
خالد الحروب
حرير- انتزع منتخبُ فلسطين لكرة القدم، بفوزه المتتالي في منافسات كأس العرب في قطر، فرحاً وحدوياً شبه نادر في هذه اللحظة الصعبة من التاريخ الفلسطيني، فرحاً يبدأ من خيام النازحين الغارقين في قسوة المطر والشتاء في قطاع غزّة، ويصل إلى مخيّمات لبنان والأردن وسورية، ويتجاوز الحدود إلى تجمّعات الشتات الفلسطيني في طول العالم وعرضه. مُدرِّب الفريق القادم من رفح، إيهاب أبو جزر، صار فجأةً صانع الأمل، ولو لوقت قصير، يحقّق نصراً في المربّع الأخضر، يهديه إلى أهل غزّة أولاً، والفلسطينيين في كل مكان، ويرفع له الجميع شارات النصر. لحظة الإجماع خلف فريق “الفدائي” تتجاوز الرياضة وكرة القدم، فهي تعبّر عن ذلك التوق العميق والمرير في أوساط الفلسطينيين إلى الوحدة، والتعبير عن فلسطينيتهم العادية، خاليةً من الفرقة السياسية، وبعيدةً من الحزبية التي غلّفت المناخ العام بمقادير فائضة من اليأس وانسداد الأفق. ما تلتقطه الكاميرا من مشاهد للمتفرّجين المتحمّسين، سواء في الملاعب ذاتها، أو في المقاهي والبيوت في عواصم ومدن كثيرة، وتنشره بسرعة البرق وسائل التواصل الاجتماعي، ينقل صورةً مثيرةً لجماهير عابرة للأعمار، بمن فيهم نساء وربّات بيوت وكبار سنٍّ، يتابعون مباريات الفريق بكل اندفاع ولهفة للفوز.
صحيحٌ أن كرة القدم تحوّلت في عالم اليوم إلى ما يشبه الجنون الجمعي في كل مكان، وعند كل الشعوب، بيد أن تمثّلها الفلسطيني الآن ينطوي على ما هو أبعد وأكثر تعقيداً من أيّ حالة عادية أخرى. هناك أولاً شعور مُستبطن بأن هذا الفريق الذي يحقّق “انتصارات” كروية، ينتفض على حرب الإبادة التي تعرّض لها الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، ويقول باسم الشعب كلّه إنه باقٍ هنا بروح الفينيق الأسطوري. ما أرادت إسرائيل فعله من جريمة إزالة فلسطين وشعبها من الأرض والخريطة، يأتي الردُّ عليه بأقدام لاعبي الفريق، صفعات في وجوه قادتها الفاشيين ووجوه كل من يقول إنه ليس هناك شيء اسمه الشعب الفلسطيني. وهناك ثانياً تجسيد عابر للسياسة والانتماءات يرفع اسم فلسطين صافيةً، ويرفع علمها بألوانه الحصرية، من دون أيّ إضافات. وفي قلب عملية الصفاء هذه، على قصرها وظرفيتها، ثمّةَ وقت مُستقطع من سيرورة الألم، والحصار المجرم من عالم لا يرحم، وانقسام لا يقلّ ضراوةً يأكل من لحمنا الحي. وقت مُستقطع يتعمّد فيه الجميع ويغتسلون من آثام الفرقة والاختلاف.
وثالثاً، يترجم الفريق الفلسطيني وحدة الشعب الفلسطيني من كل مكان: من غزّة الجريحة والباسلة، من الضفة الغربية، من فلسطين الداخل المحتل عام 1948، ومن الشتات، بدءاً بالجوار المصري وصولاً إلى أميركا اللاتينية. وهناك رابعاً، وليس آخراً، التفاف عربي خلف “الفدائي” تأييداً وتشجيعاً، يعبّر عن نقاوة مختزنة ومحاولة تعبير عن تضامن قُمعت تمظهراته السياسية في بلدان كثيرة، فانفلت هنا على صورة تضامن رياضي. يركض لاعب الفريق التونسي بعد أن سجّل هدفاً في المرمى الفلسطيني ليعانق المُدرِّب الفلسطيني ولاعبي الفريق كأنما يعتذر عن الهدف. تحمل الجماهير العربية التي يلعب فريقها ضدّ الفريق الفلسطيني أعلام فلسطين إلى جانب أعلام بلدهم. كوفية فلسطين تطرّز المشهد من أوله إلى آخره. جماهير مُنعت أن تخرج في الشوارع حاملة أعلام فلسطين وكوفياتها، تجد فسحةً في الملاعب والرياضة لتعبّر عمّا في داخلها. شهدنا ذلك أيضاً خلال مباريات كأس العالم في قطر (2022)، إذ كانت فلسطين وأعلامها ورموزها الممثلة حاضرةً رغم الغياب.
في هذه الفسحة العابقة بهواء نقي، يقدم فريق فلسطين مستوىً كروياً رفيعاً، رغم صعوبة جمع الفريق، والتدريب، وقلّة الإمكانات، وعدم تنظيم الدوري لعدة سنوات، وتدمير إسرائيل الملاعب والمرافق الكروية. هذا يضاعف مشاعر الاعتزاز، إذ كأنما تعوّض الإرادة والإصرار و”الفداء” ما نقص من جوانب تقنية هنا أو هناك. وينصبّ هذا في شعور جمعي فيّاض يعيد ترتيب أمور أكبر وفق أبجديات عرفها الفلسطينيون منذ أكثر من مائة عام، وهم يقاومون الاستعمار والاحتلال: الإرادة والإصرار يعوّضان فارق ميزان القوى. يُعيد هذا الفريق النابض بالحيوية والعزيمة تذكير الفلسطينيين بهُويَّتهم وجوهرهم الذي صقلته عقود الكفاح الطويلة. يستعرض أمامهم برمزية “صبر الحصان المُعدّ لمنحدرات الجبال” أن نهاية الطريق الوعر تُنعنع سفوح البلاد، رغم كل شيء. كيف يمكن أن يتجمّع هذا الفريق بعد سنتَيْن من حرب مجرمة شاركت فيها كل قوى العالم الفاشية للقضاء على مليونَيْن من هذا الشعب، ثم يقدّم إنجازاً كبيراً كأنّما كان يتحضّر له سنتَيْن أو أكثر؟
كثيراً ما كتب عالم الاجتماع الفلسطيني، الصديق جميل هلال، بالتقاط دقيق عن أهمية الحقل الثقافي الفلسطيني في الإبقاء على الهُويَّة الفلسطينية المُوحَّدة، والانتماء إلى فلسطين ما فوق السياسة وما فوق الأحزاب والفصائل، في وقت تفكّك فيه الحقل السياسي الفلسطيني على نحو مؤلم. يتضمّن ذلك الأدب والشعر والفنّ والموسيقى والدبكة والأهازيج وأنواع الأكل والرسوم والرموز والآثار والتعبيرات والموروثات الشعبية، التقليدي منها والحديث. تشكّل هذه في كلّيتها طبقةً عميقةً من الوعي الجمعي المُوحِّد والمُؤسِّس، ويجب أن تبقى كذلك، وأن تظلّ بعيدةً من الانقسامات السياسية والأيديولوجية. أيُّ خلافات وانقسامات وتجاذبات يجب أن تُحصر فوق طبقة الثقافة الأساس، وليس فيها، حتى لا تتشقق. وعبر حماية الحقل الثقافي هذا نضمن بوليصة تأمين المُستقبل. ولأن هذا الحقل بالغ الأهمية فإن عدوّنا يستهدفه صباح مساء كما يستهدف الأرض بالسلب والاستيطان. وكلّنا يعرف محاولات احتلال وسرقة الثقافة الفلسطينية، ورموزها، وتطريزها، وحتى كنافتها وفلافلها.
عندما يتذرّر الحقل الثقافي الجمعي لأيّ مجموعة وطنية تصبح في مهبّ رياح تهدّد هُويَّتها الوطنية وكينونتها شعباً متماسكاً.
لنا الآن أن نضيف إلى الحقل الثقافي الوطني، الحقل الرياضي الوطني واحداً من روافع الوعي الجمعي بشعبٍ فلسطينيٍّ ذي هُويَّة وطنية واحدة، وتعبيرات ذات بوصلة واحدة، يلتقي عندها الجميع، خالعين بزّاتهم السياسية والحزبية. ربّما يرى بعضهم مبالغةً في هذا التوصيف، لكن الواقع الصعب والمرير الذي يجتاح الحقل السياسي الفلسطيني يتطلّب منّا تعزيز الحقول المُساندة الأخرى حتى تحمينا من انهيار كلّي، أو توالي الانهيارات. في المباريات التي لعبها منتخب فلسطين، كان ملايين الفلسطينيين في كل مكان ينتشون بمتابعة فدائيين لا لاعبين. كانوا يرونهم يقاتلون، يجسّدون تاريخاً، ويحملون على أكتافهم ما هو أبعد بكثير من رغبة بالفوز في مباراة. رأوهم يجوبون الملعب بدبكة الأرض الفلسطينية، يقودهم مُدرّب يحمل اليرغول، يعزف الميجانا، ويغني لزريف الطول. ما دام زريف الطول يوحِّد حقلنا الثقافي والرياضي، ويؤسطر وجودنا، فإننا باقون ما بقي الزيت والزيتون.



