من قال إن الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت!

جواد بولس

حرير- منذ إعلان وقف إطلاق النار في غزة، والشروع في تطبيق المرحلة الأولى من خطة العشرين نقطة، التي طرحها الرئيس ترامب، تعيش غزة حالة من الغموض والمصير السياسي المجهول. لقد شمل الاتفاق تبادل إطلاق الرهائن المحتجزين في قطاع غزة، بأسرى فلسطينيين محتجزين في السجون والمعسكرات الإسرائيلية، إلى جانب انسحابات إسرائيلية من مناطق محدّدة في القطاع، وبدء إدخال المساعدات الإنسانية إليها.

وتنفيذا للاتفاق قامت حماس بتسليم عشرين رهينة إسرائيلية مقابل تسلمها 1968 أسيرا فلسطينيا من بينهم 250 أسيرا من أصحاب المؤبدات والأحكام العالية، بينما كان الباقون مواطنين غزيّين، اختطفهم جيش الاحتلال أثناء الحرب، وتحفظ عليهم من دون تقديمهم لأي إجراء قضائي أو محاكمة؛ وشرعت بتسليم جثامين الإسرائيليين، الذين كانوا بحوزتها. وعندما أعلنت حماس عن وجود صعوبات بالوصول إلى جميع الجثامين، سارعت حكومة نتنياهو باتهامها بنقض الاتفاق، وهدّدتها باستئناف العمليات العسكرية، داخل غزة واستعادة آخر جثمان إسرائيلي منها.

لقي الموقف الإسرائيلي تفهما كاملا من قبل الرئيس ترامب، الذي أعلن تزامنا مع وصول نائبه جي دي فانس، إلى إسرائيل، يوم الثلاثاء الفائت، في مسعى لتثبيت الهدنة، أن حلفاء بلاده مستعدون لإرسال قوات عسكرية إلى قطاع غزة “لتأديب حماس في حال واصلت التصرف بسوء وانتهاك الاتفاق معنا”، وأضاف في لهجة استعلائية وبتهديد غير مبطن قائلا: “لا يزال هناك أمل بأن تفعل حماس ما يجب أن تفعله، وإذا لم يقوموا بذلك، فإن نهاية حماس ستكون سريعة وقوية وقاسية”.

ذهب البعض إلى أن قيادات حماس تحاول الاحتفاظ ببعض أوراق الضغط التي ما زالت لديها، وبضمنها التلكؤ في قضية إعادة الجثامين، وتجنيد تلك الأوراق في الضغط على الفرقاء المشاركين في هندسة “اليوم التالي”. لقد ضعفت قدرة حماس التفاوضية، بعد أن وافقت الحركة على إعادة جميع الرهائن الأحياء، وهم أهم “غنيمة” حصلت عليها من جراء هجومها في السابع من أكتوبر، وبعد أن وافقت كذلك على إعادة جميع جثامين الإسرائيليين. لقد كانت لدى حماس فرصة ذهبية أن تربط قضية إعادة جثامين الإسرائيليين الذين في حوزتها، بإعادة جميع جثامين الفلسطينيين التي تتحفظ عليهم إسرائيل منذ سنوات طويلة. لا أعرف لماذا لم يتوقف المفاوض باسم حركة حماس عند هذه المأساة، التي تعاني منها مئات العائلات الفلسطينية، التي استشهد أبناؤها وتحفظت السلطات الإسرائيلية على جثامينهم، بحجة “حقها” باستخدام قضية الجثامين كورقة تفاوضية، والضغط فيها على الفصائل الفلسطينية، كلما فرضت تداعيات مواجهة الاحتلال الإسرائيلي الدخول في مفاوضات لتبادل الأسرى، أو لإبرام أي صفقة سياسية.

لقد أعادت إسرائيل في صفقة التبادل الأخيرة 150 جثمانا لشهداء من غزة؛ تم التعرّف على 25 جثمانا فقط من بينها، واستحال التعرف على الباقين بسبب تشوه الرفات، وهي في “عهدة” الاحتلال. تعد سياسة احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين من أقدم وأبشع الممارسات التي تنتهجها سلطات الاحتلال الإسرائيلي في انتهاك صارخ لكل الأعراف الأخلاقية والمواثيق الدولية والنوازع الدينية والإنسانية. وقد بدأت إسرائيل في ممارسة هذه الجريمة كممارسة عسكرية غير منتظمة، لكنها سرعان ما اعتمدت هذه الممارسة كسياسة انتقامية وتعسفية، تستهدف التنكيل بمن يتجرأ على مقاومة الاحتلال من جهة، وكمعاقبة جماعية لعائلات الشهداء وأبناء مجتمعاتهم. وتفيد بيانات “الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء” أن الاحتلال ما زال يحتجز جثامين 737 شهيدا في الثلاجات، أو في مقابر الأرقام، من بينهم عشر نساء و67 طفلا و88 شهيدا من الأسرى الذين سقطوا في زنازين التحقيق، أو في سجون الاحتلال نفسها. أما بالنسبة لجثامين شهداء غزة الذين سقطوا منذ اندلاع الحرب الأخيرة عليها، فلا توجد إحصائيات دقيقة بخصوصها، بسبب تكتم إسرائيل عليها، ولكن بعض المصادر تشير إلى أن عددها يناهز ألفا وخمسمئة شهيد.

لجأت قوات الاحتلال إلى هذه الممارسة في البدايات، بمقتضى قرارات عسكرية عارضة، إلا أن حكوماتها وأجهزتها الأمنية بدأت تمارس سياسة التحفظ على جثامين الفلسطينيين باللجوء إلى أنظمة الطوارئ البريطانية لعام 1945 كوسيلة معتمدة في حربها مع “الإرهاب الفلسطيني”، كما صارت تدّعي علنا وأمام المحافل القضائية. لقد حاولت بعض المؤسسات الحقوقية الإسرائيلية معارضة موقف الحكومة الإسرائيلية، بل تحدّته في التماس قضائي قدّم في عام 2017 أمام محكمة العدل العليا. نفى الملتمسون مبررات حكومة إسرائيل في لجوئها إلى هذه الوسيلة، ونفوا أيضا أن تكون أنظمة الطوارئ مصدرا لهذه الصلاحية ولشرعيتها. قبل قاضيا المحكمة جورج قرا ويورم دنتسيغر، الالتماس وقررا عدم وجود صلاحية للحكومة الإسرائيلية بالتحفظ على جثامين الفلسطينيين، بينما عارضهما القاضي نيل هندل. قدّمت نيابة الدولة للمحكمة العليا طلبا لإعادة النظر بالقرار، فعرضت المسألة على هيئة مكونة من سبعة قضاة. انقسمت هيئة المحكمة على نفسها، فقبل أربعة قضاة تتقدمهم رئيسة المحكمة في ذلك الوقت القاضية استر حيوت ومعها القاضي بتسحاك عميت، رئيس المحكمة الحالي، موقف الحكومة وذرائعها، وأجازوا سياسة احتجاز الجثامين وأسبغوا عليها رداء “الشرعية” القبيح والبشع. بعد صدور قرار المحكمة العليا في عام 2019 لم تعد سياسة احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين امتيازا سياسيا لحكومات اليمين المتغطرسة، بل صار خرقا لأسس العدل الإنساني ممهورا بختم العنصرية المتنكرة لحرمة الإنسان الفلسطيني حيا كان أم ميتا.

أتابع مواقف زعماء الدول وحكوماتها المتورطة في ما حصل ويحصل مع غزة وفي فلسطين عموما، وأسمعهم يهيبون بحماس تنفيذ التزامها بإعادة ما لديها من جثامين لمواطنين إسرائيليين. أتابعهم وأتمنى فعلا أن تعاد تلك الجثامين إلى عائلاتها لتغلق دوائر الحزن والبكاء. لكنني لا أفهم هذا الرياء والتنكر من أولئك الحريصين على ضرورات الوفاء والالتزام بحرمة الإنسان واحترامه حيا، وميتا في هذه الحالة، فلماذا لم يطالبوا إسرائيل طيلة السنين العابرة بضرورة إعادة مئات الجثامين إلى عائلاتها وإغلاق دوائر الحزن والوجع الفلسطينيين المزمنين.

أتساءل وأعرف أن من يرعى مسرحية العبث في غزة اليوم هم ثلة من “المهرجين الدجالين” المنبتّين عن عوالم الحق والفضيلة الإنسانية، والساعين وراء ترتيب مصالحهم السياسية أولا والمادية معها قبل كل همّ وغم آخرين. هؤلاء، وفي مقدمتهم ترامب وادارته، لم يعيروا أحياء غزة أي حس أو أسف، فكيف سيعيرون الأموات من فلسطين؟ لا أمل من تلك الدول العاقر ويبقى على حماس أن تشرح “لأجمل الأمهات اللواتي انتظرن أبناءهن ليعودوا في أكفانهم” لماذا حصل الذي حصل أو بالأحرى لماذا لم يحصل الذي كان يجب أن يحصل؟

مقالات ذات صلة