
ماذا يعني إفلات إسرائيل من العقاب؟
لطفي العبيدي
حرير- كلما زادت المساواة، زادت فرص الاستقرار في عمليات السلام، والقانون لا يمكن أن يوجد إلا إذا تمّ تطبيقه وإنفاذه على الجميع. الحقائق موجودة، والقانون موجود. لا يمكن لأحد أن يدّعي أنّه لم يكن يعلم بنية إسرائيل في الإبادة الجماعية وإصرارها على قتل الآلاف بطريقة قائمة على التشفي والتصفية المقصودة. الإبادة الجماعية تتمّ في عصرنا بهذا المستوى من القتل الجماعي، والمجازر والدمار، وتنتج كل هذا الألم وتلك المعاناة التي تلمّ بشعب غزة المنكوب والمظلوم. كل ما حدث يظهر مدى هشاشة سيادة القانون الدولي وتهافت مؤسسات العدالة الدولية، حيث لم تمنع مذكرات الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية حدوث الإبادة الجماعية والمضي فيها إلى حد أقصى. العقيدة الأمنية الإسرائيلية لا تدمّر غزة والضفة الغربية فحسب، بل إنها تفشل أيضا في حماية المواطنين الإسرائيليين، الذين أرهقتهم سنوات الصراع الطويلة، وباتوا ساخطين على أي طرح يفضّل المساواة على حساب القوة.
قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية، كان المستوطنون اليمينيون المتطرفون في إسرائيل يسيطرون بسرعة على الأرض، ويطردون الفلسطينيين من بيوتهم وضيعاتهم، مدعومين من أعلى مستويات الحكومة الإسرائيلية. ومع ذلك، فقد واجهوا معارضة من أهم حليف للبلاد، حيث فرضت إدارة بايدن عقوبات على المستوطنين العنيفين، وأعلنت أن بعض المستوطنات غير قانونية بموجب القانون الدولي، ولكن الآن بعد عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، يقول ناشطو المستوطنين إنهم لا يرون سوى القليل من العقبات أمام خططهم لحكم الضفة الغربية المحتلة، وربما إعادة توطين غزة وإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط. ويقولون، إن ترامب كان رئيسا مؤيدا لإسرائيل في فترة ولايته الأولى.
يبدو أنهم على صواب، بالنظر إلى درجات الدعم التي تتلقاها حكومة إسرائيل من الإدارة الأمريكية الحالية. الرئيس ترامب يضرب بمعول الهدم أعمدة القوة والابتكار الأمريكيين بتوصيف “نيويورك تايمز”، حيث يخسر دون شك معاركه التجارية المفتعلة، مع قوى عظمى على غرار الصين، فتعريفاته الجمركية تُعرّض الشركات الأمريكية للخطر، من خلال تقييد وصولها إلى الأسواق العالمية وسلاسل التوريد، كما أنه يُقلّص تمويل الأبحاث العامة ويفكك الجامعات الأمريكية، ما يدفع الباحثين الموهوبين للتفكير في الهجرة إلى دول أخرى. ويريد التراجع عن برامج في تقنيات مثل، الطاقة النظيفة وصناعة أشباه الموصلات، ويقضي على القوة الناعمة الأمريكية في أجزاء واسعة من العالم. في المقابل، تسلك الصين مسارا مختلفا تماما.
انشغال ترامب القصير النظر بـ”ضمانات مؤقتة” مثل الرسوم الجمركية، في الوقت الذي يقوّض فيه فعليا مصادر القوة الأمريكية الحقيقية، لن يؤدي إلا إلى تسريع بروز عالم تهيمن عليه الصين. تحتاج الولايات المتحدة إلى أن تدرك أنه لا الرسوم الجمركية ولا غيرها من الضغوط التجارية ستدفع الصين إلى التخلي عن نموذجها الاقتصادي القائم على الدولة، الذي أثبت نجاحا كبيرا لها، أو أن تعتمد فجأة سياسات صناعية وتجارية تعتبرها أمريكا عادلة، بل على العكس، فإن بكين تضاعف رهانها على هذا النهج، وتتبنّى تركيزا يشبه مشروع “مانهاتن” لتحقيق الهيمنة في الصناعات عالية التقنية.
فشلت تقديرات الاستخبارات الأمريكية عام 1978 في توقع الثورة الإسلامية الإيرانية، حتى اندلعت باقتحام السفارة الأمريكية، وسقوط الشاه، وأسر الرهائن الأمريكيين. الهزيمة في الحرب، إذا كانت عميقة بما يكفي لهز ثقة الفاعلين السياسيين الأقوياء داخليا، يمكن أن تؤثر على استقرار النظام، كما حدث في روسيا بعد الحرب الروسية اليابانية، لا شك بأن فلاديمير بوتين يتذكر ذلك، وكذلك مصير الاتحاد السوفييتي، ولذلك فإنه مصمم على تجنب أي نتيجة في أوكرانيا تبدو كهزيمة لروسيا، تماما مثلما أكّدت مصادر استخباراتية للرئيس بيل كلينتون، أنّ ياسر عرفات لن يجرؤ على رفض مقترحاته في قمة كامب ديفيد سنة 2000، وأنه سيكون مجنونا إن فعل، لكن عرفات رفضها، وعاد بطلا بين شعبه. وفي 2006، تجاهلت إدارة بوش المؤشرات الواضحة على فوز حماس في الانتخابات الفلسطينية، التي طالبت بها واشنطن أصلا. بعد سنوات، ومع اندلاع الانتفاضة السورية عام 2011، صوّرت المعلومات الاستخباراتية ساحة معركة بدا فيها أنّ بقاء الأسد مستحيل على المدى القصير، وأنّ طريق المعارضة إلى النصر قريب. وخلال إدارة بايدن، اعتمد المسؤولون الأمريكيون على تقارير استخباراتية لتقييم موقف القيادة الإيرانية من اتفاق نووي محتمل، فإذا بها كثيرا ما تخطئ. تفاجأوا بانتصار طالبان الخاطف بعد الانسحاب من أفغانستان، وبعملية حماس في 7 أكتوبر ضد إسرائيل، وبسقوط نظام الأسد في العام التالي، بل “تفاجأوا لأنهم تفاجأوا”. تلك هي مفارقة السياسة الأمريكية التي أصحابها “يعرفون الكثير ويفهمون القليل” بتوصيف “فورين أفيرز”. فالمعلومة ليست فهما، بل قد تكون عكسه.
حتى قبل أن يصل إلى البيت الأبيض، أرسل ترامب إشارات انعزالية، وتحفظات حادة بشأن الاستثمار الأمريكي في الدفاع عن الحلفاء، وعدم الرغبة في الانخراط في المزيد من الحروب غير الضرورية، من ناحية أخرى، صدّق ترامب حجج نتنياهو وما كان يرفعه من خرائط وصور في الجمعية العامة، وانسحب من الاتفاق النووي مع إيران، رغم أن هذا الاتفاق هو نتاج مجلس الأمن. ترامب كان دوما لغزا، متقلّبا ومندفعا ذاتيا، ولا يمكن التنبؤ بتصرفاته. ومن المرجح أن تكون إدارته الثانية نسخة أكثر تطرفا من ولايته الأولى كرئيس. وعلى النقيض من ثماني سنوات مضت، فإن هذه المرة لا توجد ضوابط وتوازنات. ودون أن يحيط به تقريبا جنرالات متقاعدون لديهم اعتقاد عبثي بقدرتهم على السيطرة عليه، سجل ترامب في التعامل مع إسرائيل، هو في تقدير الإسرائيليين أنفسهم أكثر تباينا مما يتذكره الناس. وهذا يعني أن الثناء والإطراء سابق لأوانه إلى حد ما بتعبير صحيفة “هآرتس”. وسوف يضع ترامب مصالحه الشخصية في المقام الأول، ولن تكون هذه المصالح بالضرورة متوافقة دائما مع توقعات ائتلاف نتنياهو. ومن ينبغي أن يشعر بالقلق بشكل خاص، هي البلدان التي تتصدر المعركة ضد من يسمونهم “أعداء الغرب”، وعلى رأسها تايوان (في مواجهة رغبة الصين في ضمّها) وأوكرانيا ودول البلطيق (في مواجهة الطموح الروسي).
إسرائيل تنفذ سياسة تطهير عرقي، ليس فقط ضد من يحملون السلاح، بل كسياسة جماعية. من البداية، نية ارتكاب الإبادة الجماعية كانت موجودة بالفعل. ويكفي النظر إلى كلمات قادة إسرائيل مثل، بتسلئيل سموتريتش وايتمار بن غفير، الذين يؤمنون بإمكانية إلغاء الوجود الوطني الفلسطيني، وكل ذلك باسم الأمن. فقد وعد الوزراء والساسة الإسرائيليون بتسوية غزة بالأرض، ووضعها تحت حصار وتجويع. لقد كان القصف بلا رحمة وواسع النطاق، استهدف المدارس والمنازل والمستشفيات، وأصبحت التشوهات الجسدية، والجوع، ونقص الرعاية الطبية، والموت جزءا من الحياة اليومية لسكان غزة. ولم يتخذ أحد أي إجراء لوقف ذلك، وظل العالم يتفرج عامين كاملين دون حراك. على هذا العالم مراجعة قوانينه العرجاء ومؤسساته البالية. غزة اختبرت كل قواعد النظام الدولي التي وُضِعت بعد الحرب العالمية الثانية. يمكننا أن نقول إنّ السماح بإفلات إسرائيل من العقاب بعد كل ما ارتكبته من جرائم في غزة، هذا يعني موت القانون الدولي.



