
غوستافو بيترو… صوتٌ يصدح بالكرامة
طلال أبو غزالة
حرير- في زمنٍ كثرت فيه الأصوات الباردة، وباتت المواقف المتردّدة السمة الغالبة، يأتي غوستافو بيترو ليذكّرنا بأن هناك دائماً من يختار الوقوف إلى جانب الحقّ، حتى لو كان الثمن باهظاً. ففي عالم تتشابك فيه المصالح، وتتداخل الأصوات، يبرُز أحياناً صوتٌ مختلفٌ من مكانٍ قد يبدو بعيداً من مركز الأحداث، لكنّه يحمل صدىً إنسانياً عميقاً. هذا هو حال بيترو الذي صعد إلى سُدّة الحكم في كولومبيا، قادماً من خلفيةٍ تشبه الأساطير، ليعيد تعريف معنى القيادة والالتزام بقضايا العدالة. لم يكن مجرّد سياسي آخر يمرّ في المشهد العالمي، لقد جاء من أرض الأمازون، حيث تُروى الحكايات عن رجال ونساء لا يعرفون الاستسلام في مواجهة التحدّيات، وتقاس شجاعتهم بقدرتهم على الصمود.
هذه الجذور العميقة في ثقافة المقاومة والصمود هي التي شكّلت شخصيته، ومنحته رؤيةً فريدةً للعالم. رؤية تتجاوز الحدود الجغرافية والسياسية الضيقة. فلطالما كانت كولومبيا، كغيرها من دول أميركا اللاتينية، مسرحاً لصراعاتٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ معقّدة، لكن بيترو بمسيرته التي كسرت هيمنة اليمين التقليدي أحدث تحوّلاً لم يكن يتوقّعه كثيرون. لم يكن هذا التحوّل مجرّد تغيير في السلطة، بل انعكاساً لإرادة شعبٍ يتوق إلى العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، فأثبت أن التغيير ممكن، وأن صوت الشعب، حين يتّحد، قادر على قلب الموازين. وما أثار الدهشة حقاً اتجاه هذا الصوت نحو قضية تبدو بعيدةً جغرافياً، لكنّها قريبة جدّاً من الوجدان الإنساني: قضية فلسطين. ففي وقت اعتاد فيه العالم على الشجب والتنديد الخجول، خرج بيترو ليتحدّث بوضوح عن ضرورة التحرّك الفعلي، فلم يكتفِ بالكلمات، بل دعا إلى تشكيل قوّة عالمية لتحرير فلسطين، واضعاً نفسه ورجاله في طليعة هذه الدعوة.
إذن، هو يرى في القضية الفلسطينية صراعاً من أجل الكرامة الإنسانية وحقّ الشعوب في تقرير مصيرها. وعليه، أعاد بيترو بطروحاته الجريئة أمام المحافل الدولية إحياء زمنٍ ذهبي في الذاكرة العربية، زمن كانت فيه فلسطين القضية المركزية، المحور الذي تتجمّع حوله القلوب والجهود. لقد أيقظ فينا حلماً كاد أن يطويه النسيان، حلماً بالتحرّر والعودة إلى الكرامة، فكلماته دعوة صادقة إلى العرب ليتجاوزوا مرحلة الأقوال إلى مرحلة الأفعال، وأن يعيدوا التفكير في معنى الحياة الكريمة. لكنّ المفارقة المؤلمة أن هذا الصوت القادم من بعيد، وحمل همومنا، لم يجد الصدى الكافي في إعلامنا أو بين نخبنا، فبينما كان بيترو يرفع علم فلسطين في صفحته الشخصية في وسائل التواصل، ويطلق اسم فلسطين على شارع في عاصمة بلاده، كانت قنوات فضائية وصحف عربية تتجاهل طروحاته، أو تشير إليها عرضاً، وكأنّها لا تعنيها. كان بيترو يرى في فلسطين قضية إنسانية عالمية، تتجاوز المسافات الجغرافية، بينما نحن، الذين هي أقرب إلينا من حبل الوريد، انشغلنا بهمومنا اليومية، وبات البحث عن فسحة ضوء أو جرعة ماء أقصى طموحاتنا.
لم يتوقّف بيترو عند حدود الخطابات الرسمية أو الإجراءات الدبلوماسية، فنزل إلى شوارع نيويورك ليقود تظاهرةً بنفسه من أجل فلسطين، في مشهدٍ نادر وغير مألوف لرئيس دولة. كسر البروتوكولات، وتجاوز الأعراف، ليؤكّد أن القضية الفلسطينية ليست مجرّد ملفّ سياسي يُناقَش في أروقة الأمم المتحدة، بل قضية حيّة تنبض في قلوب الأحرار في كل مكان. هذا الموقف الاستثنائي، الذي لم يجرؤ عليه كثيرون، يجعله نموذجاً متفرّداً في عالم السياسة، فغالباً ما تطغى المصالح على المبادئ، فحتى عندما اتخذت الولايات المتحدة قراراً بإلغاء تأشيرة دخوله، لم يكترث بيترو وردّ بكلماتٍ تعكس جوهر شخصيته. وأقول إن هذه الكلمات ليست مجرّد ردّ على قرار سياسي، بل إعلان عن هُويَّة تتجاوز الحدود، وتؤمن بالحرية والكرامة قيماً عالميةً لتجسّد الكرامة التي لا تنحني أمام الضغوط، ولا تساوم على المبادئ.
إنه ليس مجرّد رئيس دولة، بل هو رمز لرفض الذل وصوت يصدح بالكرامة، وإحياء الإيمان بأن العدالة ممكنة، وأن الإنسانية قادرة على الانتصار. دعونا نذكُر هذا الرجل بالخير، ونحتفي بمواقفه، ونستلهم من شجاعته. ففي عالمه، لا تزال مساحة للأبطال الذين يجرؤون على الحلم، ويقاتلون من أجل تحقيقه.
تاريخياً، لم يكن غوستافو بيترو وحده في هذا المضمار، فالتاريخ الحديث يزخر بقصص شخصيات عالمية رفعت صوتها عالياً من أجل فلسطين، متجاوزةً المصالح السياسية والضغوط الدولية. نتذكّر هنا نيلسون مانديلا، أيقونة النضال ضدّ الفصل العنصري، الذي قال: “نعلم جيّداً أن حريتنا لن تكتمل من دون حرية الفلسطينيين”، وكيف كانت كلماته إدراكاً عميقاً للترابط بين قضايا التحرّر والعدالة في العالم. لقد رأى في نضال الفلسطينيين امتداداً لنضال شعبه، ورفضاً لأشكال الظلم والاضطهاد كلّها. كما لا يمكننا أن ننسى أصواتاً فنّيةً وأدبيةً عالميةً، مثل الشاعر التشيلي بابلو نيرودا، الذي كتب عن فلسطين بقلبٍ ينزف، والموسيقي البريطاني روجر ووترز، الذي استخدم فنّه ومنصّته العالمية للدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، متحدّياً بذلك حملات التشويه والضغوط.
هؤلاء وغيرهم كثيرون، من مفكرين ونشطاء وسياسيين، أدركوا أن القضية الفلسطينية بوصلة أخلاقية للعالم، وأن الصمت أمام الظلم مشاركة فيه. إنهم يمثّلون الضمير الإنساني الحي، الذي يرفض أن يرى شعباً يُحرَم من أرضه وحقوقه الأساسية، ويُجبر على العيش تحت نير الاحتلال. هذه الأمثلة، من بيترو إلى مانديلا وغيرهما، تؤكّد أن النضال من أجل فلسطين ليس قضيةً إقليميةً أو دينيةً، بل هو صراع عالمي من أجل العدالة والكرامة الإنسانية.
إنها دعوة لكل حرٍّ في هذا العالم ليقف مع الحقّ، وليكسر حاجز الصمت، وليذكّرنا بأن الأمل لا يموت ما دام هناك من يجرؤ على الحلم، ويقاتل من أجل تحقيقه، مهما كانت التحدّيات جسيمةً.