مفاوضات شرم الشيخ في منتصف الطريق

جمال زحالقة

حرير- وصلت المفاوضات الجارية في منتجع شرم الشيخ إلى مرحلة الحسم، وهناك ضغوط كبيرة من الإدارة الأمريكية ومن أطراف أخرى للتوصل إلى اتفاق سريع، في غضون أيام لا خلال أسابيع، ودفعت أطراف المفاوضات بمندوبين على أعلى المستويات للتأثير على المسار وعلى النتيجة. فإضافة إلى الوفدين الإسرائيلي برئاسة رون ديرمر والفلسطيني بقيادة خليل الحيّة ووزير الخارجية المصري أحمد عبد العاطي، وصل إلى شرم الشيخ رئيس الوزراء القطري، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، ورئيس المخابرات التركية، إبراهيم قالن؛ إضافة إلى المبعوثَين الأمريكيَين، ستيف ويتكوف وجاريد كوشنير، اللذَين طالما اعتُبر حضورهما إلى مكان المباحثات دليل الوصول إلى مرحلة حاسمة، فهما كما جاء في «نيويورك تايمز» يوم الأربعاء الماضي «مهندسا خطة ترامب المكوّنة من عشرين نقطة، وحضورهما يشير إلى إحراز تقدّم». وتعطي مشاركة كبار المسؤولين من الولايات المتحدة ومصر وقطر وتركيا، زخما قويا للمفاوضات، ما يوحي بأن المسألة جدّية هذه المرة، وأن المفاوضات سوف تفضي إلى اتفاق إذا لم تحدث مفاجأة في اللحظة الأخيرة.

تحاول الإدارة الأمريكية بث روح التفاؤل حول إمكانية التوصل إلى اتفاق في شرم الشيخ، وتكاد تتحدث عن حتمية لا عن أرجحية. ويقود ترامب نفسه «حملة التفاؤل» الأمريكية، المقصود بها ـ تبعا لذهنية ترامب المتمحورة حول الذات – تبجيل صورة الرئيس وقدراته الخارقة وأحقيّته بجائزة نوبل، ولكنها معدة أساسا لتشكيل ضغط على الأطراف المفاوضة، خصوصا حماس، للإسراع في تقديم «التنازلات» اللازمة للتوصل إلى اتفاق. وجاء في تصريحات ترامب أن هناك «فرصة حقيقية»، وأن التقدم «جيّد جدّا.. وحماس توافق على أمور مهمة جدا»، وغيرها من التصريحات «الترامبية»، التي وصلت إلى حد الادعاء بأن ترامب فعل من أجل «السلام في الشرق الأوسط» ما لم يفعله الآخرون خلال آلاف السنين.

لقد تحولت أجواء التفاؤل بنجاح المفاوضات، وباستحالة فشلها إلى موجة كاسحة من الصعب الوقوف في وجهها، خاصة أنّها تجري في ظل استمرار حرب الإبادة الجماعية والتدمير الشامل في غزة، وتحت وطأة الوزن الثقيل للإجماع العربي. وهكذا بات المفاوض الفلسطيني بين فكي كماشة: الضغط الدولي (الأمريكي – العربي-التركي تحديدا) الجارف من جهة، والضغط الشعبي الذي ينطق بنداء لغة الموت والدمار، اللذين تتعرض لهما غزّة وأهلها الأعزّاء. وفوق هذا كلّه، تجري المفاوضات تحت التهديد بتحميل حركة حماس المسؤولية في حال فشل المفاوضات، مع رفع عصا الوعيد بتصعيد حرب الإبادة والتدمير. ولا مبالغة في القول إن المفاوض الإسرائيلي يوجّه مسدسه نحو المفاوض الفلسطيني مهددا بإطلاق النار عليه، عاجلا أو آجلا. المفاوض الفلسطيني، الذي يعرف ويحس بمعاناة غزّة الفظيعة، هو أكثر المعنيين بالتوصل إلى اتفاق هدنة دائمة، لوقف نزيف الدم الفلسطيني. لكن الشروط المعروضة عليه حاليا مجحفة بشكل فظيع، وتشمل بعض بنودها تنازلات جوهرية استراتيجية تمس صلب حقوق الشعب الفلسطيني من الصعب جدا القبول بها كما هي. ويمكن القول إن المفاوضات اليوم هي في منتصف الطريق: النصف الأول كان القبول بخطة الرئيس ترامب كمرجعية للحل، ولم يُحرز إلى الآن أي تقدّم جدّي لتحويلها إلى بنود تفصيلية صالحة للتنفيذ. ونصف الطريق ـ كما قال جبران ـ لا يوصل إلى أي مكان.

تفتقر خطة ترامب إلى الحد الأدنى من الانصاف والتوازن، وهي منحازة إلى إسرائيل، لدرجة أن نتنياهو تباهى بأنها تنسجم مع «أهداف الحرب الإسرائيلية». ورغم أنّ جميع بنودها ـ بلا استثناء ـ تتناغم مع موقف الحكومة الإسرائيلية، إلا ان رئيسها نتنياهو لم يكتف بذلك وشرع في أسرلة الخطة، وفي إعطاء تفسيراته الخاصة لبنودها بندا بندا. لقد حصلت إسرائيل على مكاسب من الوزن الثقيل في خطة ترامب، لكن نتنياهو لا يشبع ويطمع بالمزيد حتى يقف أمام الجمهور الإسرائيلي معلنا النصر، إن هو حقق مبتغاه في المفاوضات. إنّ مطامع واعتبارات نتنياهو في مفاوضات شرم الشيخ كثيرة وكبيرة:

أوّلا، انتقل مركز الثقل في اعتبارات نتنياهو الشخصية والحزبية من الحرص على بقاء الائتلاف الحكومي، المكوّن من الليكود ومن الأحزاب الدينية الأربعة، إلى توجيه الجهد المركزي نحو الفوز في الانتخابات المقبلة، المقرر إجراؤها بعد حوالي العام، إذا لم يجر تبكيرها. هذا التغيير لا يجعله أقل تطرّفا في مواقفه، لكنّه يدفعه نحو إبداء بعض المرونة لكسب أصوات المترددين بينه وبين المعارضة، فمن المستحيل أن يفوز في الانتخابات إذا لم يجتذب قسما كبيرا من أصوات ما يسمّى «اليمين الرصين». ويعتقد نتنياهو ومن حوله أنّ إعادة المحتجزين الإسرائيليين ستزيد من شعبية نتنياهو، حتى لو جاء ذلك بثمن لا يقبله حليفاه سموتريتش وبن غفير. ومرد هذا التغيير في ميزان اعتبارات نتنياهو لا يعود إلى العامل الزمني فحسب، الذي يشمل اقتراب الانتخابات، والخشية المتزايدة بمرور الوقت على حياة المحتجزين، بل هو أيضا استجابة من نتنياهو لضغوط ترامب، ومحاولة الاستفادة منها ومن الصفقة المحتملة في استمالة الناخبين المترددين، عوضا عن الاكتفاء بالمراهنة على أصوات اليمين المتطرّف، التي وصلت حالة الإشباع، ولا مجال للتوسع الانتخابي من خلالها.

ثانيا، يعمل نتنياهو على التوصل إلى اتفاق يبقي الباب مفتوحا أمام تجديد الحرب، أو على الأقل يتيح العمليات المحددة، على نسق ما جرى ويجري في سياق «الاتفاق مع لبنان». ولم يترك رئيس الوزراء الإسرائيلي مجالا للتأويل حول نواياه حين قال إن المطلب الإسرائيلي هو تجريد حماس من السلاح ونزع قطاع غزة من الأسلحة، مهددا أنه «إذا لم يتم ذلك بالطرق السياسية فستنفّذ إسرائيل ذلك بنفسها بطرق عسكرية».

ثالثا، إذا أخذنا بالحسبان مجمل التصريحات والتسريبات والتصرفات الإسرائيلية يمكن الاستنتاج أن من أهم الاعتبارات الإسرائيلية في المفاوضات هي فرضية أن الولايات المتحدة حازمة في موقفها، وأن ويتكوف لن يغادر مصر بلا اتفاق ـ إمّا بالموافقة أو بالإملاء. ويبدو أنّ الولايات المتحدة لن تسمح لنتنياهو بتفجير المفاوضات كما فعل في الماضي.

رابعا، يبدو أن نتنياهو عقد صفقة مع ترامب أساسها أن الإدارة الأمريكية تدعم وتساند إسرائيل في الأمور الكبيرة، وإسرائيل مطالبة بأن تبدي بعض الليونة في الأمور الصغيرة، لتسهيل تنفيذ خطّة ترامب. تتوقع الإدارة أن تبدي إسرائيل بعض الليونة، ونتنياهو مستعد، وفق بعض المصادر الإسرائيلية، أن يبلع بعض الضفادع منعا للدخول في صدام مع ترامب، وقد تكون تلك من نوع الضفادع التي تقدّمها بعض مطاعم باريس الفاخرة.

خامسا، لقد دأب نتنياهو على اتباع أسلوب المماطلة والتسويف، لمواصلة حرب الإبادة. لكنّه المرّة، تبنّى استعجال ترامب وانقلب على نفسه وصار ينادي بمفاوضات سريعة محددة بأيّام معدودة، مدعيا أنّه يجب «منع حماس من القيام بمناورات تأجيل ومماطلة ومراوغة». من جهة نتنياهو فإن الدعوة إلى استعجال المفاوضات هو ثمن زهيد لنيل رضا ترامب والفوز ببركاته.

سادسا، تصر إسرائيل على رفض الانسحاب الكامل من غزة، وأصدر نتنياهو تعليماته لطاقم المفاوضات، برئاسة الوزير المتطرف رون ديرمر، للتشبث بخريطة الانسحابات، التي أُرفقت بخطة ترامب، والتي لا تتماشى مع الموقف الإسرائيلي، ويبدو أنّها خريطة إسرائيلية المصدر والتصميم.

سابعا، تضع إسرائيل شروطا تعجيزية في موضوع صفقة التبادل. فهي تشترط إطلاق سراح جميع المحتجزين الإسرائيليين خلال 72 ساعة من بدء تنفيذ الاتفاق، ولا يبدو هذا الأمر ممكنا لصعوبة انتشال بعض الجثامين من تحت الركام خلال هذه المهلة القصيرة. وتضع إسرائيل شروطا أكثر تعجيزا بخصوص تحرير أسرى قياديين مثل مروان البرغوثي وأحمد سعدات وحسن سلامة وعبد الله برغوثي وغيرهم، مع أنّهم يستوفون معيار الأقدمية في التحرير، الذي من المفروض أن يطلق سراح الأسرى وفقا له. وتأتي المعارضة الإسرائيلية لإطلاق سراحهم من نتنياهو ومن جهاز الشاباك، الذي «يحذّر» من ان تحريرهم سيساهم في تعزير قوة القيادة الفلسطينية بأطيافها كافة.

ثامنا، يريد نتنياهو بالسطر الأخير اتفاقا يمكّنه من ادعاء تحقيق إنجاز شخصي كبير، ومن الإعلان عن إحراز النصر، والذهاب إلى الانتخابات لترجمته إلى مكسب انتخابي جديد.

هناك الكثير من الشروط التعجيزية الإسرائيلية الأخرى، وهي تشكّل عراقيل جدّية يصعب تجاوزها، وإذا راجعنا تفاصيل الموقف الإسرائيلي سنجد أن إسرائيل ليست مستعدة للالتزام بإنهاء الحرب وبوقف دائم لإطلاق النار، ولا بالانسحاب الكامل، وتصر على سيطرة أمنية كاملة على قطاع غزة، وعلى حق الفيتو على هوية الأسرى الفلسطينيين المنوي تحريرهم، وعلى التحكّم بمن يحكم غزّة، وعلى نزع السلاح من القطاع بالكامل، وعلى إملاءات إضافية لا أوّل لها ولا آخر. وحتى الآن لم تبد إسرائيل أي نوع من الاستعداد للتنازل عن مطالبها العدوانية. يجب تسليط الأضواء على التعنّت الإسرائيلي، وعلى أنها ليست مفاوضات متوازنة، بل هي تفاوض بين مندوبي الإبادة الجماعية وممثلي ضحاياها. وإذا كانت المفاوضات تراوح في منتصف الطريق ولا تحرز تقدما وازنا، فإن الجهة المعتدية هي المسؤولة عن ذلك. لم يجر إلى الآن الاتفاق على أي من القضايا الخلافية ما يجعل الحديث عن اتفاق شامل خلال أيام ضربا من المستحيل. الطريق للاتفاق طويلة وعثار، والدعوة لاجتيازها حتى نهاية الأسبوع الحالي قد تؤدّي إلى تفاوض بسرعة تفوق سرعة الصوت، ما قد يُنتج اتفاقا غير مكتمل. في كل الأحوال، الأمر الملح هو وقف فوري للحرب، مع كل الصعوبات وفي ظرف فيه «الليل داج والطريق عُثار» ـ كما قال الجواهري، الحل المتوقّع قد يكون مرّا، وقد تكون بعض الأثمان باهظة لكن حياة أهل غزة أغلى.

مقالات ذات صلة