
آلام غزّة والاستجابة الدولية المبتورة
لطفي العبيدي
حرير- ترامب الأسير في قبضة السياسة الأمريكية المُتمحورة حول إسرائيل، لا يجرؤ على التخلّي عن مساعيه في دعم طموح الصهيونية التوسعية، على حساب أرض فلسطين التاريخية. يُقدّم مقترحات، ويحاول أن يُنظَرَ إليه كصانع سلام عالمي رغم دعمه لحرب إبادة أتت على آلاف الضحايا المدنيين في غزة.
نوايا إسرائيل واضحة، في يناير 2024، ضاعف نتنياهو، الهارب من العدالة الدولية، موقفه الرافض منذ زمن طويل لقيام دولة فلسطينية، وقد أيّدت الأغلبية الساحقة في الكنيست موقفه في يوليو 2024. هل سيغيّر موقفه؟ لا أحد يعلم. يكفي تعنّته وإصراره على حرب الإبادة والتهجير، رغم ما حدّدته المحكمة الجنائية الدولية في يناير 2024 من خطر وقوع إبادة جماعية، ووضعت حينها تدابير كان على إسرائيل اتباعها لمنع ارتكاب هذه الجريمة، بما في ذلك توفير المساعدات الإنسانية بلا قيود، وحسب كل المعطيات، فإن إسرائيل لم تلتزم بهذه التدابير. والهجوم المتواصل على غزة هو المرحلة الأخيرة من حملة إسرائيل: الإبادة الجماعية في غزة المحاصرة برا وبحرا وجوا.
أمام ما تفعله حكومة المتطرّفين، يتابع الجمهور الإسرائيلي، بصمت وصخب في آن، رئيس الحكومة نتنياهو والتيار الديني الصهيوني. هذا الجمهور، أو على الأقل غالبيته، لا يُبدي معارضة حقيقية لما يجري. ثمة فئة نشيطة فيه، هم الكهانيون ودعاة الاستيطان من اليمين المتطرف، تحتفل بالحرب وتسعى إلى استغلالها لتوسيع حدود الدولة، عبر إعادة احتلال قطاع غزة، وإقامة إدارة عسكرية فيه، وربما لاحقا إعادة بناء المستوطنات. هؤلاء لا يرون في استمرار الحرب عبئا، بل فرصة لتحقيق أهداف أيديولوجية دفينة. لكن القسم الأكبر من الجمهور الإسرائيلي لا يشاركهم هذا الحماس. لأنه جمهور مرهق ومربك، لا يملك الطاقة لمعارضة ما يراه أمامه من تدهور سياسي وأخلاقي. حتى من يدرك أن الحكومة تفرض عليه خدعة سياسية، تلك التي تتستّر خلف شعارات «منع السابع من أكتوبر المقبل» و»الحق في الانتقام»، لا يملك الإرادة للوقوف بوجه تيار اليمين المتطرف. والحقيقة أن الحكومة الحالية، بقيادة نتنياهو، لا تبدي أي نية فعلية لإعادة الرهائن، بل تسعى إلى استمرار الحرب، بل توسيعها، حتى أولئك الذين لا ينكرون حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، ولا يتجاهلون ما حدث في 7 أكتوبر، باتوا يشعرون بنفور عميق من السياسة المتبعة. هؤلاء لا يستطيعون تأييد القتل الجماعي للأطفال والنساء، أو سياسات الحصار والتجويع، أو إقامة إدارة عسكرية جديدة في غزة. وهم، في الوقت نفسه، يعرفون أن هذه الحرب لم تُسفر حتى الآن عن إطلاق رهينة واحدة، ولن تؤدي إلى ذلك في المستقبل المنظور. في تقدير «هآرتس»، ترامب لم يوجه دعوة مباشرة لإسرائيل بوقف الحرب طوال الأشهر السابقة، ولم يفرض عليها حظرا للسلاح منذ أن تولّى السلطة، ولم يرفع الفيتو الأمريكي عن قرارات أممية ضدها. لكنه عمليا يتصرّف وكأنه يتخلى عن إسرائيل بصمت، ويمنحها حريّة الاستمرار في طريق الانهيار (الأخلاقي على الأقل). ومن الواضح أن ترامب ينظر إلى السعودية، وكل دولة تضخ أموالا كثيرة للاستثمار في أمريكا، بوصفها الشريك الأكثر أهمية في الشرق الأوسط، وليس إسرائيل.
منذ تأسيس إسرائيل عام 1948، استند الدعم الدولي لها إلى حد كبير على الاعتراف بأن اليهود كانوا ضحايا إبادة جماعية. ومع ذلك، شهدت الحرب في غزة موجة متزايدة من الإدانة لإسرائيل لارتكابها أذى متعمّدا للمدنيين، وفظائع جماعية، وحتى إبادة جماعية. فأين الدعم الدولي العملي لفلسطين، التي يُباد أهلها ويهجّرون؟ ربما الخطوة الوحيدة أتت من المحكمة الجنائية الدولية حين أصدرت أوامر اعتقال تُلزم حوالي 125 دولة، بما في ذلك فرنسا والمملكة المتحدة، باعتقال رئيس وزراء إسرائيل وأعضاء آخرين في مجلس الوزراء الإسرائيلي. وحتى داخل إسرائيل، تدعو أصوات بارزة إلى تصحيح المسار، فقد أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت، أن تصرفات إسرائيل في غزة ترقى إلى «جريمة حرب»، بحجة أن «ما نفعله في غزة الآن هو حرب دمار: قتل عشوائي وغير محدود ووحشي وإجرامي للمدنيين». اليوم، نجد دونالد ترامب يقول إنه لن يسمح لإسرائيل بضم الضفة الغربية المحتلة، رافضا دعوات بعض السياسيين اليمينيين المتطرفين في إسرائيل، الذين يرغبون في توسيع السيادة على المنطقة، وهو ما سيجعل من المستحيل إقامة دولة فلسطينية. ترامب، الذي يظل أقوى حليف لإسرائيل على الصعيد الدولي، يصرّح بأنه تحدّث مع ممثلين عن دول الشرق الأوسط ومع نتنياهو، وبأن اتفاقا بشأن غزة قد يحدث قريبا. لا أحد ضد وقف الحرب، ولكن، على أن لا يكون هذا الاتفاق على حساب الضحية مرة أخرى وفقا لسياسة الأمر الواقع، خاصة مع تخلّي الجميع عن فلسطين، وعن غزة تحديدا بعد كل المجازر التي حدثت في حق الأبرياء.
بدأ العديد من الدول الغربية بالفعل في اتخاذ خطوات «لتوبيخ إسرائيل»، بما في ذلك الانضمام إلى معظم دول العالم في الاعتراف رسميا بدولة فلسطينية. هذا ما ظهر في اجتماع نيويورك، وقد تؤدي إلى تدخل إنساني واسع النطاق في غزة وفرض عقوبات اقتصادية على إسرائيل. ومن المرجح ألا تتبع الولايات المتحدة هذا المسار، لكن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب متقلّب المزاج. فقد تناقض بالفعل مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وأصرّ على أنّ تجويع غزة يجب أن ينتهي، والخلافات تتّسع داخل قاعدة ترامب بشأن إسرائيل. في الأثناء، يُتوقع أن يوسّع الغرب نطاق عقوباته لتشمل ما هو أبعد من الشخصيات الهامشية في ائتلاف نتنياهو. ومع ازدياد عزلة إسرائيل، ستكون عقيدة ترامب هي الوقوف خلف نتنياهو بالتأكيد. لكن ذلك سيتعارض مع عقيدة أخرى لديه وهي، تجنب تمويل حروب خارجية بلا نهاية. ومع اقتراب الذكرى الثانية لهجوم 7 أكتوبر، ستشتد الأزمة أكثر فأكثر إن لم يتم التوصّل إلى حلّ يوقف القتل والترهيب، ويخدم ولو قليلا الضحية وليس الجلاد.
أن يعترفوا فورا بفلسطين من دون قيد أو شرط ليس منّة من أحد، لكن عليهم أن يعترفوا بما هو أبعد من ذلك، أن يقرّوا بأن نتنياهو مجرم حرب دولي بكل ما للكلمة من معنى. عليهم أن يدعموا فرض عقوبات جديدة تستهدف حركة المستوطنين، ومن يدعم خطاب الاستيطان بما في ذلك وزراء مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش. عليهم أن يقرّوا بأن نتنياهو وحكومته يشكّلان العقبة الأساسية أمام إطلاق سراح الرهائن، والتوصّل إلى حل لوقف الحرب المدمّرة. عليهم أن يعترفوا بأهل غزة كضحايا لإبادة جماعية متواصلة، وأن يتصرفوا على هذا الأساس. وإلا فسيبقى جميعهم متواطئين في هذه الكارثة المدمّرة من صنع البشر، من صنع إسرائيل تحديدا، ومن يقف وراءها بالدعم والاسناد.