ماذا لو دخلت الجيوش العربية غزة؟ .. بين حماية المدنيين وخطر “المستنقع”

بقلم الإذاعي الكاتب شريف عبد الوهاب رئيس الشعبة العامة للإذاعيين العرب

منذ اندلاع الحرب الأخيرة على غزة وما تبعها من تلال من الركام وآلاف الضحايا، يعود السؤال المصيري ليطفو على السطح مجدداً: هل تدخل الجيوش العربية القطاع؟ السؤال لا يختزل نفسه في قرار عسكري مجرد، بل يفتح على سلسلة من الحسابات السياسية والأمنية والرياح الشعبية التي قد تقوّض أي مبادرة قبل أن تبدأ.

في لحظة الألم والضغط الإنساني، تبدو فكرة تدخل قوة عربية كـ«طوق نجاة» لإنقاذ المدنيين وتأمين ممرات الإغاثة وتهيئة شروط إعادة الإعمار. لكن الواقع الميداني أبعد ما يكون عن البساطة: قطاع غزة منطقة حضرية مكتظة، وميدانه معقّد بفصائل متعددة، وبنية مجتمعية حساسة، وتداخل مصالح إقليمية ودولية لا تسمح بتحرك أحادي بسيط.

ثلاثة سيناريوهات محتملة

أمام صناع القرار ثلاث صور واضحة للمستقبل: الاول، قوات عربية محدودة تحت غطاء دولي تعمل على تأمين نقاط إنسانية وخطوط إغاثة؛ الثاني، تدخل عسكري واسع يترتب عليه حرب شوارع واحتكاك مكثف مع فصائل المقاومة؛ والثالث، حل سياسي–أمني تدريجي يقوم على بناء أجهزة أمن فلسطينية جديدة بدعم عربي ودولي. الأخير يبدو الأقل تكلفة وأكثر استدامة، لكنه يتطلب توافقاً فلسطينياً داخلياً نادراً في ظل الانقسام.

معضلة “المجموعات الموازية”

أحد أهم مخاطر أي تدخل هو ما يمكن تسميته بـ«المجموعات الموازية» أو خلايا متعاونة. الحديث هنا ليس عن جيش منظم بل عن شبكات صغيرة قد تنخرط في عمليات تجسس أو اغتيال أو استهداف للقوات. وجود مثل هذه الخلايا يكفي لأن يقلب الموازين: فقد تُستغل لتنفيذ هجمات تُسجَّل على حساب القوات العربية، وتثير الفوضى، وتخلق رواية مفادها أن الوجود الخارجي ليس حماية بل تهديد.

الشرعية الشعبية: الاختبار الفاصل

القيادة العسكرية قد تدخل الأرض بالأسلحة والعتاد، لكنها لن تسيطر على المدينة إلا بكسب القبول الشعبي. أي قوة تُنظر إليها من الجمهور الفلسطيني كقوة «حماية» قد تُنجز مهامها، أما إن صُنفت «قوة احتلال» فستتحول إلى هدف يومي للمقاومة الشعبية والمنظمة على حد سواء. لذلك، الشرعية الشعبية هنا ليست ترفاً أخلاقياً بل متطلب عملي للبقاء والنجاح.

خطر توجيه الأوامر من خارج الإقليم

ومن المهم أن نوضح أمرًا خطيراً وحاسماً: إذا دخلت القوة العربية غزة، ولم تُعمل وفق مصلحة الفلسطينيين أو استراتيجية مستقلة تُراعي مصالح الشعب الفلسطيني، بل وُظفت لتنفّذ أجندات خارجية—خاصة إن كانت متوافقة مع أجندة أمريكية أو إسرائيلية—فإن ذلك سيخلق لها مشكلة وجودية في الشارع الفلسطيني. في هذه النقطة تتحول القوة العربية من «قوة حماية» إلى «قوة مساندة لأجندات أجنبية»، وستُصنّف عمليًا من قبل الفلسطينيين والفصائل كعميلة أو متواطئة. بالتالي، ستتضاعف المقاومة ضدها، ليس فقط من فصائل مسلحة تقودها حركة معروفة، بل من مجموعات شعبية ومسلحة قد ترى في هذه القوة هدفًا مشروعًا للقتال. هذا الاحتمال يجعل من أي تحرك خارجي مخاطرة استراتيجية كبرى—فإذا لم يُبنَ على أساسٍ فلسطيني واضح ومستقل، فقد ينقلب على مبادرته ويولد مستنقعاً جديداً يصعب الخروج منه.

البعد الإقليمي والدولي

أي خطوة عربية لن تكون منعزلة عن حسابات القوى الإقليمية والدولية. مصر والأردن الأقرب جغرافياً سيقاطعان أي تغيير ميداني قد يضرّ بأمنهما أو بموقفهما السياسي. دول الخليج قد تقدم دعماً مالياً أو لوجستياً لكن إرسال قوات أرضية مباشرة يظل احتمالاً محدوداً. على الجانب الآخر، قوى إقليمية مثل إيران وحلفاؤها قد تعتبر أي وجود عربي مدعوم دولياً محاولة لتقليص نفوذها، ما قد يدفع إلى ردود تصعيدية.

ماذا عن الفلسطينيين أنفسهم؟

الشعب الفلسطيني هو الحاكم الأول على قبول أي خطة. بعد سنوات من التجارب، باتت الثقة بالحلول المفروضة من الخارج شحيحة. لذلك نجاح أي خطة عربية يتطلب مشاركة فعلية للفصائل وشرائح المجتمع المدني والقيادات المحلية، وإشراكهم في صياغة مهام القوات وإطار عملها ومدة تواجدها وشروط انسحابها.

الخلاصة

دخول الجيوش العربية غزة خيار له وجاهته الإنسانية لكنه محفوف بالمخاطر السياسية والأمنية. وجود خلايا متعاونة أو مجموعات متخفية يكفي لأن يحوّل التدخل إلى دوامة عنف. والأهم من ذلك، أن أي قوة لا تعمل بمعزل عن الإرادة والقبول الفلسطيني، أو تعمل وفق خارطة أجندات خارجية، ستواجه مقاومة شرسة قد تجعلها تبدو وكأنها تعمل لصالح مصلحة أجنبية—وبالتالي ستتعرض لهجوم من داخل غزة. الحل الأكثر واقعية هو دعم فلسطيني مشترك تحت مظلة عربية–دولية، يهدف إلى تمكين مؤسسات أمنية فلسطينية مشروعة، مع ضمان حماية المدنيين وضمان إشراف دولي محايد. غير ذلك، فالمغامرة ستبقى محفوفة بخطر أن تبدأ بشعار الحماية وتنتهي بمستنقع جديد لا يخرج منه إلا بثمن باهظ للجميع.

مقالات ذات صلة