النظام الفيدرالي رائع: لكن هل نحن جاهزون؟

د. فيصل القاسم

حرير- يكثر الحديث في الآونة الأخيرة عن النظام الفيدرالي كحلّ لأزمات الحكم في عدد من الدول العربية التي تعاني من تعقيدات سياسية واجتماعية وإثنية وطائفية مزمنة. وتُطرح الفيدرالية أحياناً بوصفها حلاً سحرياً يُحقق العدالة في توزيع السلطة والثروة، ويُنهي الصراعات والانقسامات العميقة، ويقرّب بين المكونات المتعددة تحت مظلة دولة موحدة. لكن، هل يمكن فعلاً استنساخ النماذج الفيدرالية الغربية في السياقات العربية؟ وهل الفيدرالية مجرّد نظام إداري، أم أنها تحتاج إلى شروط ثقافية وتاريخية وسياسية واجتماعية عميقة حتى تنجح؟

لماذا تنجح الفيدرالية في الغرب وتفشل غالباً في العالم العربي؟ حين ينظر كثير من العرب إلى أنظمة مثل الولايات المتحدة الأمريكية، أو ألمانيا، أو سويسرا، أو بلجيكا، ينبهرون بكيفية إدارة التنوع الثقافي والديني والإثني عبر أنظمة فيدرالية مستقرة. لكن ما يُغفل غالباً هو أن هذه النماذج لم تنشأ في فراغ، ولم تُفرض فجأة كحلول جاهزة، بل جاءت كنتيجة لمسارات طويلة من بناء الهوية الوطنية، وترسيخ ثقافة المواطنة، وتطوير نظم قانونية راسخة، وتجاوز العصبيات الأولية لصالح الدولة الحديثة.

في المقابل، تعاني معظم الدول العربية من غياب هذه الأرضية التأسيسية. فالمواطنة في كثير منها ما تزال مرتبطة بالانتماء القبلي أو الطائفي أو المناطقي. والولاء للدولة المركزية غالباً ما يكون هشاً، ومشروطاً، ومرتبطاً بالهوية الفرعية لا الجامعة. فكيف يمكن بناء نظام فيدرالي ناجح في ظل غياب المواطن «الفرد الحر المتساوي»، ووجود «الرعية» التي تُعرّف نفسها عبر طائفتها أو عشيرتها أو منطقتها؟

الفيدرالية ليست أبداً نظاماً ميكانيكياً بل ثقافة سياسية، كما أنها ليست مجرد تقسيم إداري للسلطات بين المركز والأقاليم، بل هي منظومة ثقافية وقانونية مبنية على الاعتراف بالآخر، والقدرة على التعايش معه، والاحتكام إلى القوانين والمؤسسات، لا إلى السلاح أو الانتماء أو العرف القبلي والطائفي والعرقي. في الولايات المتحدة مثلاً، رغم وجود فروقات دينية وعرقية كبيرة، فإن الجميع يُعرف أولاً كمواطن أمريكي، يخضع لدستور موحد، ويدين بولائه للدولة، لا للطائفة أو العشيرة أو القومية.

أما في بعض التجارب العربية التي حاولت تطبيق الفيدرالية أو اللامركزية، فقد تحولت الفكرة إلى ذريعة للمحاصصة، ومقدمة للتفتيت، وتحولت الأقاليم إلى شبه دويلات يديرها أمراء الطوائف، لا ممثلو الشعب. وانتهت الأمور في كثير من الأحيان إلى صراعات مسلحة حتى داخل الطائفة أو الدين أو القبيلة نفسها، أو إلى تفكك الدولة، أو تكريس الانقسامات الرهيبة بدل تجاوزها. وبدل أن يرى الناس في الفيدرالية نظاماً ديمقراطياً وحاكماً عادلاً، فقد يجدون أنهم انتقلوا من تحت ربقة الديكتاتور الأكبر إلى تحت قبضة الديكتاتور الأصغر الذي يتفوق على معلمه الأكبر أحياناً في الفساد والإفساد والوحشية والمحسوبية والقمع والقهر.

هل المجتمعات العربية جاهزة للفيدرالية إذاً؟ الجواب الواقعي المؤلم: ليس بعد. لا يمكن استيراد النماذج الغربية وتطبيقها بميكانيكية على بيئات لم تُنجز بعد مشروع الدولة الوطنية، ولا تزال تُدار بعقلية ما قبل الحداثة. لا يمكن إقامة فيدرالية ناجحة في بيئة ما زالت تحكمها الأعراف العشائرية، والانقسامات الطائفية، والكراهية المتبادلة، والتخوين والتكفير، وتوزيع الولاءات على أساس الهويات الفرعية، بل إن محاولة فرض الفيدرالية أو حتى بعض أشكال الحكم الذاتي في بيئة كهذه قد تفتح الباب لصراعات انفصالية، وتعيد إنتاج الحروب الأهلية، وتحوّل البلاد إلى «مشيخات» وإقطاعيات تتنازع على السلطة والموارد.

متى تكون الفيدرالية خياراً ناضجاً؟ عندما يحقق النظام الفيدرالي الشروط التالية:

هوية وطنية جامعة تفوق الانتماءات الفرعية. دولة قانون تضمن الحقوق والحريات لكل المواطنين دون تمييز. ثقافة ديمقراطية تقبل التعددية وتدير الخلاف بالوسائل السلمية. مواطنة حقيقية تقوم على المساواة أمام القانون لا على الامتيازات الطائفية أو القبلية. إجماع وطني على شكل الدولة ونظامها، وليس فرضاً من طرف خارجي أو انتقامياً بعد نزاع.

باختصار، فإن النظام الفيدرالي ليس وصفة سحرية قابلة للتطبيق في أي مكان وزمان، ولا هو مجرد تقنية إدارية لحل النزاعات. إنه نتاج تطور طويل في بنية الدولة والمجتمع. أما في عالم عربي ما زال يعيش في ظلال الطائفية والقبلية والمناطقية، فإن الدعوة إلى الفيدرالية قبل تحقيق المواطنة الحقيقية ليست إلا وصفة جديدة لتفتيت ما تبقى من الدولة، لا لبنائها. وبالتالي قبل أن نتحدث عن الفيدرالية، علينا أن نؤسس للدولة أولاً.

مقالات ذات صلة