
لبنان الواقع بين مكابرتين: السلاح اليائس والمبتهجون بانقضائه
وسام سعادة
حرير- مريعٌ المشهد الإجمالي لمنطقة المشرق العربي في إثر عقود طويلة من التغنّي «بالسلاح»، ورفعه أقنوماً من فوق الشروط المادية والذهنية والمعرفية لإنتاجه وتبيئته وتطويره.
جزء كبير من «فيتيشية السلاح» هذه سيق ضمن إطار أن أساليب حروب العصابات والنزاعات غير الموازية والفصائل غير الدولتية تعطي للسلاح الفيتيشي مزية وحيوية وشأوا، بالمقارنة مع أعتى الجيوش الجرارة وأكثرها فتكاً، بل أن سلاح حروب الغوار قادر حين يلتهب بالحماسة على أن يعرّي مكامن العطب في المنظومات الصناعية الأكثر تقدماً، ويجعل الحداثة تصطدم بنفسها حين يفضحها العنصر الإرادي الذي يحترف «علاقة يدوية» بالسلاح.
جرى التغني مطوّلاً بمقولات من قبيل أن ما لم تفلح به الجيوش النظامية في وجه إسرائيل يتكفل به سلاح الفصائل. على اعتبار أن الأخيرة لا تهزم بالمعارك الماحقة كما يحدث في حال الدول، بل تمضي بين كرّ وفرّ وبين تحلّل وإعادة تنبّت ضمن النزاع الطويل المدى، المتعدد الأجيال، وتخلط بين النزاع في الدنيا وفي نهاية الأزمان والآخرة. تراهن على إحداث مفاعيل السأم والتلف لدى الخصم الحضاري والاستعماري. هناك من لا يزال يقنع نفسه بهكذا سردية. لكن فاتورتها أصبحت وخيمة أكثر من أي وقت سابق. «فيتشية» السلاح زادت من حجم الفجوة الحضارية والتكنولوجية في آن. المكابرة على مشكلة هذا السلاح يزيد بدوره من جسامة الفجوة.
بيد أن تفكيك فيتيشية السلاح هذه لا يلغي في المقابل أن انعدام الموازين بشكل مريع لغير صالح شعوب المنطقة يستند على انعدام توازن عسكري وتصنيعي عسكري وأمني. فمهما خضنا في نبذ فيتيشية السلاح ظهر أيضا أن المنطقة تخضع لاستلاب شامل ليس من أقل وجوهه هو التحكم العسكري والأمني بمآل مواردها ومقدراتها وخيارات ناسها ومجتمعاتها من قبل أمريكا أولا، وإسرائيل ثانيا. فمن أراد التفلت من فيتيشية السلاح ليرتمي بأحضان المكابرة الأخرى: التصرف كما لو أن المنطقة غير مستلبة بالسلاح الأمريكي – الإسرائيلي، وجد نفسه يستعيض عن إنكار للواقع بآخر. التصرف كما لو أن هذا الانعدام في الميزان يمكن عزله عن مجريات الأمور، والانصراف بعد ذلك لبناء المجتمعات والدول يستند هو الآخر الى وهم إرادوي كبير.
مع هذا ثمة فارق بين الوهمين. أحدهما لا مناص من التفلت منه على وجه السرعة، وهو فيتيشية السلاح. لأنه وهم عالي الكلفة كل لحظة بلحظة. الوهم الآخر، بأنه يمكن «البناء» في ظل الشروط الحالية للاستلاب الشامل، يظل على خطورته الإجمالية أقل وطأة، طالما أن الحاجة هي قبل أي اعتبار آخر لالتقاط الأنفاس.
لبنان تحديدا هو اليوم مختبر لهاتين المكابرتين. فيتيشية السلاح لا تزال تجد من يسوّق لها بعد الحرب التدميرية أواخر العام الماضي وما تبعها من وقف إطلاق نار مختل ومن جانب واحد. لكنها فقدت سحرها، تحولت الى «فيتيشية يائسة». في المقابل، عدم الرغبة بالاعتراف بأن الواقع أضحى مختزلا بكليته إما الى مكابرة «سلاحية» وإما إلى إدارة أجنبية إملائية محض لا يخدم كثيرا في عملية إعادة التفتيش عن مساحة للمطارحة النقدية. يزيد من الطين بلة أنه، في الوضع اللبناني تحديدا، قلما تستدعي الكبوة الحالية إحاطة ثقافية بها، ويجري حصر الأمور في المشاحنة السياسية. الأدهى أن المتداولين لهذه المشاحنة السياسية يتصرفون كما لو أن هذا الصخب بات بمنأى عن التدهور لاصطدام شامل، سواء في الداخل أو بين إسرائيل وحزب الله. وهذا في أقل الإيمان تقدير رغبوي. في النهاية، نزع أي شبهة تكريس رسمي لسلاح الحزب قد يراه البعض سدا للذرائع بوجه إسرائيل، لكن الأمور في العادة ليست بهذه المثالية. نزع شبهة التكريس من جهة، واحتدام الانقسام حول ما بقي من سلاح الحزب، وورود مؤشرات الى أن خط الإمداد لم ينقطع رغم أشهر طويلة من انقلاب الحال في سوريا: كل هذه التقاطعات تزيد من خطورة الوضع، من البوابة الإسرائيلية وليس العكس.
كيف التفلت، بشكل قاطع وشامل، من «فيتيشية السلاح» لا سيما في مرحلتها «اليأسية»، من دون الوقوع في المكابرة المقابلة، بأن انعدام التوازن الشامل يمكن التصرف بحياله كما لو أنه مجموعة ضمانات انتقالية فقط لا غير؟ الادغام بين هذين الهاجسين هو المستبعد حالياً، إن يكن في لبنان أو في بقية المنطقة المشرقية. استبعاد له كلفته أيضا. التشنج بلا طائل. وعدم القدرة في الوقت نفسه على تقدير العواقب. عواقب أن الأمور قد تتدهور بالفعل في الأسابيع المقبلة، وأن اجتماع المكابرة على «فيتيشية السلاح» مع عناصر انعدام التوازن الفظة في المشهد، أهليا وإقليميا، يصعب أن يتمخض عنها استقرار في المشهد، ولو كان بالحد الأدنى.
في نهاية المطاف، تعرض بلد كلبنان منذ نحو العام لحرب تدميرية ألحقت به في الوقت نفسه هزيمة كبيرة، لحزب الله في المقام الأول، وأبقت له، وللحزب، إلى حد كبير، بقدرة على المراوغة الخطابية. ما بين الهزيمة المادية والمراوغة الخطابية ـ الشاحنة ـ ثمة مسار من المكابرة مستمر. لماذا حدث لنا هذا، وهل كان بالمقدور اجتنابه، سؤالان لا يقلان إلحاحا عن سؤال «والآن ما العمل؟». ما يمكن عمله قبل كل شيء هو رفض الاختيار بين مكابرة وبين أخرى، بين فيتيشية السلاح وبين عدم الاعتراف بخطورة اللاتوازن الإقليمي- الدولي الحالي وانعكاساته الداخلية. رفض الاختيار، انما في الوقت نفسه الوضوح بأن فيتشية السلاح باتت وطأة ما بعدها وطأة.