أزمة أوكرانيا: ما الجديد في قمة ألاسكا؟

د. مدى الفاتح

حرير- تابع العالم، وبشكل خاص الدول الأوروبية، المتضرر الأكبر من الحرب الأوكرانية، قمة ألاسكا بين الرئيسين الأمريكي والروسي باهتمام، على أمل أن تحقق اختراقاً وتنجح في نزع فتيل التوتر، الذي ظل يشعل المنطقة والعالم، منذ بدء العملية الروسية في 2022.موقف دول الاتحاد الأوروبي، خاصة تلك التي عانت من المقاطعة الروسية ومن الضغط على ميزانياتها، بسبب إعادة التركيز على البرامج الدفاعية، كان شديد التعقيد، فهم لم يريدوا فقط إنهاء الصراع، ولكنهم كانوا يتمنون أن ينتهي الأمر بإعلان هزيمة روسيا وتكبيدها خسائر، تجعلها تندم ولا تفكر في تهديد أوكرانيا، أو أي دولة أوروبية أخرى في المستقبل.

ذلك بدا مطلباً صعباً، ببساطة لأن وضع الروس العسكري والاقتصادي لم يكن بذلك السوء، الذي يدفع للبحث عن طرق لوقف الحرب بأي ثمن. من الناحية العسكرية، استطاع الروس تحقيق تقدم وكسب مساحات واسعة من الأراضي في شرق أوكرانيا خلال الأيام الماضية، أما اقتصادياً، فحتى إن لم يكن الاقتصاد الروسي في أفضل حالاته، إلا أنه يعتبر صامداً مقارناً بالأزمات الداخلية، التي خلفتها تداعيات الحرب في الدول الأوروبية، والتي أدت لاضطرابات، ولتغيير حكومات ولتوفير وقود لتيارات اليمين، التي تزدهر الآن كما لم تزدهر من قبل.

إخضاع روسيا وإجبارها على الاستسلام لم يكن ممكناً، لأن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وعلى الرغم من تصريحه، الذي سبق القمة، والذي هدد فيه بوتين بعواقب إن لم يوافق على وقف إطلاق النار، لم تكن لديه مصلحة في الانحياز الكامل لأوكرانيا، أو الظهور بمظهر المعادي لروسيا أو للرئيس فلاديمير بوتين، على العكس من ذلك فقد كان يظهر في مرات كثيرة إعجابه بالرئيس الروسي. يمكن المضي أكثر من ذلك للقول إن الرئيسين يشتركان في احتقارهم للقارة العجوز، التي يرون أنها فقدت قيمتها. على سبيل المثال وعلى عكس اللقاءات مع كثير من الزعماء الآخرين، الذين سعى ترامب للتقليل من شأنهم، فإن لقاء ترامب- بوتين ظهر بشكل فيه ندية بين الطرفين، أما الموقف الأمريكي، وعلى عكس التصريحات، التي كانت فهمت على أنها محاولة لوضع ضغوط على بوتين لمصلحة أوكرانيا، فقد كان أقرب للحياد.

الرئيس ترامب بدا مزدوج التفكير، فكان من ناحية منشغلاً بإنهاء ذلك الصراع، وهو ما كان سيخدم حلمه بالحصول على جائزة نوبل للسلام، لكنه من ناحية أخرى كان لا يستطيع التفكير بمعزل عن منطق الصفقة والربح، الذي يدفعه للتقارب مع موسكو والسعي إلى كسبها إلى صفه، وهو الذي يستعد لمواجهة محتملة مع الصين.

كان ذلك هو سبب توتر الأوروبيين، الذين يعلمون أن الرجل يتحرك في السياسة كطريقته في التحرك في عالم «البزنس»، بهذا فإنه لم يكن مستبعدا أن يدخل ترامب مع بوتين في صفقة مشتركة، خاصة أنه كان قد كرر أكثر من مرة أنه لا يجد نفسه مطالباً بالدفاع عن أوروبا. حتى تقييم مثل هذه القمة من ناحية النجاح أو الفشل نجده مختلفاً بين الجانبين الأمريكي والأوروبي، فالنجاح، الذي ينحصر عند الأوروبيين بالوصول إلى تفاهم يفضي إلى وقف إطلاق النار، قد يعني لترامب الوصول لصفقة لا يستبعد أن تكون على حساب مصالح الأوروبيين، ورؤيتهم للحل ولمستقبل العلاقة مع روسيا.

الأوروبيون، الذين لم يشاركوا في القمة، كانوا قد عقدوا لقاء عبر «الفيديو كونفرس» مع الرئيس الأمريكي من أجل التأكد من نواياه، وتأكيد موقفهم الداعم لأوكرانيا. وفق التصريحات التي أدلى بها زعماء مثل، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فقد كان ترامب متفهماً ومسانداً لموقفهم ولوجهة النظر الأوروبية، التي تعتبر أن الحديث عن الحدود لا يمكن أن يتم بمعزل عن مشاركة الرئيس الأوكراني. كان ماكرون، الذي يمثل إحدى الدول الأكثر دعماً لأوكرانيا، يشير هنا إلى المقترح الموضوع على الطاولة بشأن تبادل الأراضي بين كل من روسيا وأوكرانيا، أو ما يسمى بـ»الأرض مقابل السلام»، أي إنهاء الصراع عبر منح كل بلد الأرض، التي يسيطر عليها.

من يتابع الأزمة الأوكرانية يعلم أن هذا المقترح ليس سوى تغليف للهزيمة، فعلى عكس روسيا، التي تسيطر على أقاليم أوكرانية كاملة، لا تكاد أوكرانيا تصل إلى أي مساحة روسية تذكر. هكذا، وبالنسبة للرئيس الأوكراني فلولوديمير زيلينسكي ولكثير من الوطنيين والقوميين الأوكرانيين، فإن طرح هذه الفكرة يعني القبول بالاحتلال الروسي. بالنسبة لأولئك، فإنه لا بأس في التفاوض مع الروس، ولكن ليس من أجل منحهم أراضي وشرعنة وضعهم، بل من أجل توفير ضمانات أمنية وتنسيق لكيفية انسحاب الروس بشكل نهائي.

في المقابل، فإن الروس، الذين لم يؤثر انعقاد القمة على مسار عملياتهم العسكرية أتوا إلى ألاسكا بروح مختلفة وتوتر أقل، حيث إن انعقاد اللقاء بحد ذاته نجاح لهم وتدليل على أن الرئيس بوتين ليس معزولاً، كما أراد له الأوروبيون. بوتين استطاع إثبات أنه اللاعب الأهم، الذي يملك بين يديه مفاتيح الحرب والسلام، كما أثبت أن تحركاته، وهو الموصوف من قبل الأوروبيين بأنه مجرم حرب، لم تعد تقتصر على بلدان الجنوب أو على الدول الإقليمية الحليفة، وإنما توسعت لتشمل لقاء زعيم الدولة الأكبر. صحيح أن أحد اسباب اختيار القاعدة العسكرية في ألاسكا، التي كانت تتبع في تاريخ ليس بعيد نسبياً لروسيا، كمكان لعقد هذه القمة كان بسبب قربها من الحدود الروسية، بحيث لا يحتاج الرئيس بوتين للعبور عبر أي دولة أخرى، إلا أن لقاء الرئيسين كان يفرغ موضوع الملاحقات الجنائية الدولية من مضمونه وأهميته.

بهذا فإن أهمية اللقاء بالنسبة للروس كانت تتجاوز المسألة الأوكرانية بكثير، فقد كان فيها محاولة لبدء تفاهم جديد مع الرئيس ترامب، عن طريق إغرائه بفائدة التصالح مع روسيا، التي لا تمانع ببدء شراكة مع الأمريكيين في مجالات كثيرة، من أهمها المعادن. ظهر هذا في تشكيل الوفد الروسي، الذي ضم إلى جانب المستشارين السياسيين شخصيات مهمة من القطاع الاقتصادي.

أول خطوة نحو هذا التصالح، إن تم، سوف تكون رفع العقوبات، صحيح أن تفعيل هذه العقوبات أثبتت من جديد فشلها في تحقيق الانتصار، أو في تركيع الخصم، وهو الأمر، الذي لا نجد شواهده في روسيا وحدها. إلا أنه، ومهما قيل عن صمود الاقتصاد الروسي، وقدرة البلاد على التنفس، ومتابعة التعبئة والتسليح وهي تخوض حرباً مكلفة، فلا يمكن التقليل من تأثير تلك المحاصرة الاقتصادية، التي ضاعفت ارقام التضخم، وعقدت التعاملات والتبادلات التجارية مع موسكو.

قبيل القمة كان المحللون يذكّرون بما حدث إبان لقاء الرئيسين الأخير في هيلسنكي في 2018، حينما بدا ترامب منحازاً لبوتين، حتى على حساب أجهزته الأمنية والاستخباراتية، فحين طُرح عليه موضوع تدخل الروس في الانتخابات الأمريكية وتلاعبهم بها، وهو ما كانت تؤكده مؤسسات أمريكية، قال إنه يصدق بوتين، الذي كان يقول إن بلاده لم تفعل ذلك، ما اعتبر بمثابة إهانة وقتها لتلك المؤسسات وانتقاصاً من دورها. في هذه القمة لم يحدث موقف بمثل هذا الإحراج، لكن الفرضية، التي تذهب إلى أن ترامب متواطئ مع الروس، ما تزال حاضرة في التحليلات الغربية، وهو ما يجعل كل شيء متوقعاً.

مقالات ذات صلة