
روسيا تراهن على استمرار الحرب
حسين مجدوبي
حرير- فشلت مفاوضات السلام التي احتضنتها تركيا نهاية الأسبوع الماضي بين أوكرانيا وروسيا، بسبب الاختلاف في التصور العام للنتيجة التي يجب أن تسفر عنها هذه المفاوضات، الأمر الذي يجعل أوروبا في موقف ضعف لم تكن تنتظره في بداية الحرب خلال فبراير/شباط 2022. وتشير كل المعطيات إلى رهان موسكو على استمرار الحرب حتى استسلام أوكرانيا.
جرى الحديث في البداية عن حضور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأوكراني فلولوديمير زيلينسكي في مفاوضات تركيا، غير أن موسكو وأمام غياب التزام صريح من طرف كييف، بجعل المفاوضات أشمل تقود إلى سلام دائم، قررت تخفيض مستوى الوفد. وهكذا انتهت المفاوضات بنتائج قريبة إلى مفاهيم الصليب الأحمر مثل، تبادل ألف من الأسرى عن كل جانب، بدل نتائج سياسية وعسكرية جديرة بمفاوضات إنهاء حرب مستمرة منذ أكثر من ثلاث سنوات.
ويوجد اختلاف جذري بين رؤية موسكو للسلام، ورؤية كييف ومن ورائها الغرب برمته، وحتى الإدارة الأمريكية الحالية بزعامة الرئيس دونالد ترامب، وإن كان بدرجة أقل مقارنة مع إدارة الديمقراطي جو بايدن. في هذا الصدد، تعتبر روسيا الحرب الحالية، معركة وجودية بالنسبة للأمة الروسية، وبالتالي يجب أن تكون نتيجة الحرب والمفاوضات حاسمة وواضحة، ولا مجال فيها للتسويات السياسية الهشة، التي قد تجعل الحرب تستأنف من جديد، وربما أكثر وحشية، كما ذهب إلى ذلك الرئيس الروسي السابق مدفيديف.. وعليه، ترفض القيادة الروسية في الكرملين فكرة الحلول الوسط، أو المؤقتة، وتطرح حلولا صعبة، إن لم تكن تعجيزية لأوكرانيا والغرب برمته. ورغم مرور ثلاث سنوات لم تتراجع موسكو عن مواقفها ومطالبها، مقابل تراجع نسبي للغرب. وهذه المطالب تتجلى في كون أي مفاوضات سلام يجب أن تكون نهايتها هي: تنازل كييف عن شرق أوكرانيا الذي تسيطر عليه موسكو، والاعتراف بأن شبه جزيرة القرم هي أراض روسية، ثم التعهد الأبدي بعدم الانضمام الى منظمة شمال الحلف الأطلسي، بل حتى إلى الاتحاد الأوروبي، وعلى ضوء هذا، تختزل موسكو الأزمة في بعدها الجيوسياسي، وتعتبر طموحات أوكرانيا للانضمام إلى الناتو والاتحاد الأوروبي تهديدا وجوديا، لذلك تطالب بضمانات دائمة لحياد أوكرانيا. وتشترط كذلك واشنطن لاتفاقية السلام بحكم أن الولايات المتحدة هي التي تمتلك مفاتيح الحل، لأنها الوحيدة القادرة على تزويد أوكرانيا بالسلاح والدعم اللوجيستي. وينطلق الفكر الجيوسياسي الروسي في معالجة هذه الحرب، من أن الغرب شكّل دائما مصدر الخطر للأمن القومي الروسي خلال القرون الأخيرة ولاسيما بعد حملة نابليون، ثم الحرب العالمية الثانية، عندما كاد النازيون يصلون إلى موسكو. ولهذا، يبقى الغرب في أعين موسكو مقرونا بالتهديد. وتضاعف هذا الفكر بعد تفكيك الاتحاد السوفييتي وقرار كييف الانضمام الى الحلف الأطلسي، بمعنى أن صواريخ الحلف ستكون هذه المرة على الحدود الروسية، وعلى بعد بضع مئات كيلومترات فقط من موسكو. في المقابل، تبقى صواريخ موسكو بعيدة بآلاف الكيلومترات عن واشنطن، وهو خلل كبير في ميزان الردع.
في المقابل، كانت كييف تبدو متشددة في مواقفها بعدم التنازل عن أراضي شرق أوكرانيا، والتشبث بحقها في الانضمام إلى الحلف الأطلسي، ضمن حق تقرير مصيرها. وتبدي كييف نوعا من الليونة مثل التفاوض حول جزيرة القرم، أو تأجيل الحسم فيها، والأخذ بعين الاعتبار مخاوف روسيا الأمنية، إلا أن هذه الخطوات المحتشمة، التي لم تحسم فيها كييف، تجعل موسكو لا تأبه بها. معطيات الواقع، خاصة الحربية منها، تبرز استمرار موسكو في التشبث بمواقفها والرهان أكثر على الحرب لأن الزمن ومسار المواجهات العسكرية هما في صالحها. في هذا الصدد، لم تعد أوكرانيا ومعها الغرب قادرين على مسايرة إيقاع الحرب الحالية. فمن جهة، تفتقد أوكرانيا للعتاد العسكري، خاصة الذخيرة الحربية، ولم تنفع الأسلحة الغربية المتطورة التي توصلت بها مثل مقاتلات إف 16 وأنظمة باتريوت للدفاع الجوي، ولا دبابات ليوبارد، ولا صواريخ هيمارس الهجومية في خلق ولو توازن نسبي في هذه الحرب، فبالأحرى تغيير كفة الحرب لصالح كييف. ومن جهة أخرى، فقدت كييف أهم ممول بالعتاد العسكري عندما قرر الرئيس ترامب إيقاف المساعدات العسكرية للقوات الأوكرانية. علاوة على هذا، يبدو أن الدول الأوروبية قد تم استنزافها ولم تعد قادرة على إرسال مزيد من الأسلحة وتخلت نهائيا عن فكرة إرسال جنود إلى أوكرانيا. وتغير خطاب أوروبا جذريا من تشجيع الحرب سنة 2022 الى الإصرار على طلب الهدنة وإنهاء المواجهات ابتداء من منتصف 2024. وكانت أوروبا ترفض منح تركيا شرف احتضان اتفاقية السلام، وأفشلت مفاوضات السلام خلال مايو/أيار 2022، ولكنها الآن ترحب بالدور التركي لأنه سينهي حرب الاستنزاف التي تعاني منها.
وبعد أكثر من ثلاث سنوات على اندلاع الحرب، لم تعد روسيا تعاني من عزلة دبلوماسية دولية، بسبب وقوف «منظمة البريكس» إلى جانبها، وكذلك وقوف أمم الجنوب التي رفضت الانضمام إلى الغرب في معاداة موسكو. في الوقت ذاته، لا توجد معارضة قوية وسط الداخل الروسي للحرب، بل يؤمن الرأي العام الروسي في غالبيته بأن الأمر يتعلق بحرب مشروعة لضمان مستقبل روسيا من مخططات الغرب، وهو الرأي العام الذي ما زال يتذكر كيف تعامل الغرب بنوع من الازدراء مع الشعب الروسي بعد تفكك الاتحاد السوفييتي.
جميع الدلائل ومعطيات الواقع تؤكد أن روسيا ما زالت مصممة على مواصلة الحرب ضد أوكرانيا، لا لأن تطوراتها تخدم مصالحها بالضرورة، وتصب في صالحها، بل لأنها تؤمن إيمانا عميقا بأن هذه الحرب ومنذ بدايتها تعد قضية مصيرية، وترى أن تحقيق النصر فيها سيجعل الغرب لن يعاديها، وكذلك السبيل لضمان أمنها لعقود طويلة مقبلة.



