
تحديات بابا الفاتيكان الجديد
بيير ريمون
حرير- «هل سيكون القرن الحادي والعشرون قرنا روحيا، أو لن يكون؟». هذه الكلمات الشهيرة للكاتب أندريه مالرو، أرست بوادر تفكير عقائدي في الغرب، كان من الممكن أن يتجسد في مبادرات أشمل وأقوى ترجع بمزيد من الإيجابية، ميلا سائدا إلى التوجه للروحانيات. ولعل كلمة «ميل» هنا تخفق نسبيا في وصف الواقع وصفا وافيا، طالما أن عبارة «الحاجة إلى الروحانيات» ربما تكون هي الأنسب. نعم. لقد انطلق تعبير مالرو من الغرب، لكن جاء ليعكس ميلا وتوجها عالميين، ومن شيم كبار الكتاب أن يستشعروا مثل هذه الميول والتوجهات فعلا.
لكن الدعوة لم تلب وفق المنتظر، لم تلب بما كان يمكن أن يفتح طريقا ثالثا نشقه، ينأى فيه المرء بنفسه عن نفي الروحانيات، كما عن استغلالها لدوافع أيديولوجية فاضحة. غير أن البابا فرانسيس حاول ذلك. حاول ذلك وأفلح في البدء بسد ثغرات من فتحوا ثغرات.. وبمن «فتحوا ثغرات» أعني هنا دعاة التطرف السياسي المنخرطين في التيارات التي تسمي نفسها المحافظة.
ولأن، في المقابل، لم تنخرط المجتمعات الغربية في الكفاح الروحي، بما فيه الكفاية فقد فوتت على نفسها معنى أساسيا لهذا الكفاح وهو أنها لم تترك لنفسها فرصة لتحديد طبيعته. فيما فتح البابا فرنسيس، في هذه النقطة بالذات، طرقا ترتاد ومسالك يهتدى بها، طرقا عملية بسيطة ليست نظرية، تترسخ في استقبال المهمشين والعناية بالنازحين، وقد كان حضوره في مارسيليا حضورا لافتا. «لا أذهب إلى فرنسا، بل أذهب إلى مارسيليا» قال البابا عندما سئل عن رحلته.
ذهب البابا إلى مارسيليا وخاطب الجموع في أمر النازحين، ولم يحضر احتفالات إعادة فتح كاتدرائية نوتردام في باريس. لم يذهب البابا إلى الاحتفالات الرسمية الرمزية، وإن كانت لافتة لأن البابا فرانسيس لم يكن يحب الرموز. كان يحب البساطة العملية وبساطة التقاليد المتجسدة في الثقافات المحلية، المكونة لهوية عريقة تنمي الإثرة ومحبة الآخر، لهذا ذهب أيضا إلى كورسيكا، منطقة معروفة بتنميتها لصلات الأخوة والقرابة والانفتاح على الآخرين، رغم مشاهد العنف التي طبعتها. لم يكن البابا فرانسيس يحب الرموز، ولم يكن غريبا أن يدعى بالثوري، كما كان ينعت بالثوريين لاهوتيو «لاهوت التحرير» أي أنصار التيار المسيحي الأمريكي اللاتيني، المبني على دمج «الفقراء والمهمشين» في المجتمعات. لم يكن البابا فرانسيس يحب الرموز، فلم يسكن شقة بابا الفاتيكان الفاخرة، بل شقة متواضعة في «دار القديسة مارت» المفتوحة لجميع أهل السبيل.
حيث يمر البابا تمر السياسة، وهذه خاصية كثيرا ما تنسى، ويجب أن لا ينسى أحد أن الفاتيكان دولة وبالتالي أن البابا رئيس دولة. لهذا، لن يفاجأ أحد بقراءة مقال مطول صدر في صحيفة «لوموند» الفرنسية عن العلاقات الوثيقة التي كان قد كونها البابا فرانسيس مع العاهل المغربي محمد السادس. لم تتردد الصحيفة الفرنسية الشهيرة في إعطاء مقالها العنوان التالي: «في المغرب، جسد البابا كنيسة لم تعد تصور نفسها مركزا للعالم»، دلالة على محاور أساسية: الحوار الديني أولا، والحوار مع الإسلام تحديداً، تعزيز صوت دول منطقة الجنوب العالمي (Global South)ثم مراجعة سياسات الهجرة المقيدة. هنا، كان البابا قد ذكر أن المغرب «جسر طبيعي بين افريقيا وأوروبا»، وأن «من طبيعة المغرب» بالتالي أن «يكرس الحوار» بين «ديني المسيحية والإسلام التوحيديين».
كان البابا فرانسيس، بابا حوار الأديان، وكان بابا سياسة التوازن أيضا، ما ترجمه أساسا اعتراف الفاتيكان بالدولة الفلسطينية سنة 2015 وتنديد البابا المتواصل بالوضع في غزة. كيف سيجسد البابا الجديد كنيسة الغد؟ هل سيكون أيضا بابا عرف كيف يحول السياسة الموجهة إلى جيوسياسة بشرية؟ أكثر من علامات استفهام تطرح.. لكن الجواب آت قريبا لا محالة.