حرب ترامب على القضاء تنذر بفوضى دستورية تهدد الفيدرالية

ابراهيم عرب

حرير- لطالما كانت تفاخر الولايات المتحدة الأمريكية بصلابتها الدستورية، التي امتدت منذ عام 1787 لما تضمنه من فصل واضح بين السلطات التنفيذية في الرئاسة والتشريعية في الكونغرس، والبت في الخلافات بينهما قضائيا ودستوريا، من خلال المحكمة العليا، لكن ما تشهده أمريكا اليوم يوصف بأنه أزمة دستورية بفعل محاولات إدارة الرئيس دونالد ترامب التأثير على آلية الفصل بين السلطات هذه لاسيما بعد تصويب هجومه الشرس على مؤسسة القضاء.

آخر سد منيع أمام جموح ترامب

تعتبر المؤسسة القضائية اليوم المتمثلة بالمحاكم الفيدرالية وقضاتها، وكذلك في المحكمة العليا آخر سد منيع أمام جموح ترامب في السلطة وسعيه لتحويل الولايات المتحدة من جمهورية اتحادية دستورية، إلى دولة سلطوية أو ملكية يكون فيها هو الآمر الناهي بأوامره التنفيذية التي تواجه شبهات دستورية، فقد اصطدم العديد من الأوامر التنفيذية بإجراءات قضائية تمنع تنفيذها، ما يجعلها حبرا على ورق لحين بت النزاع فيها. وكذلك تنغص هذه الإجراءات على ترامب نشوته أمام وسائل الإعلام بما يسميها إنجازات، أو وعودا انتخابية يسعى لتحقيقها. وتعج المحاكم الفيدرالية في هذه الأثناء بعشرات الدعاوى التي رفعتها ولايات، أو بادر قضاة فيدراليون إلى التدخل فيها لوقف أوامر ترامب التنفيذية بصرف آلاف الموظفين، أو منع الحق الدستوري باكتساب الجنسية بالولادة، أو ترحيل المهاجرين، أو طرد المتحولين جنسيا من الجيش، وغيرها. والحق يقال إن ترامب على ما يبدو لديه فهم قاصر للأوامر التنفيذية، بحيث يتمادى في استخدامها للحل والربط في قضايا خارجة عن دورها التشغيلي الإداري للبلاد مثل إغلاق وزارة التعليم، أو إلغاء حق دستوري باكتساب الجنسية عمره أكثر من مئتي عام، وهذه مسائل تحتاج في حسمها إلى أغلبية في الكونغرس، ثم إلى تصديق من الولايات إذا ما تطلبت تعديلا للدستور.

سابقة تاريخية في طلب عزل قاض فيدرالي

وأمام ذلك، سلّط ترامب هجومه على القضاة وأبرزهم جيمس بواسبرغ، الذي منعه من تفعيل قانون الأعداء الأجانب لعام 1798 لترحيل مواطنين فنزويليين، وكذلك على القاضية آنا ريس، التي أوقفت قراره بطرد المتحولين جنسيا من الجيش. وكعادة ترامب في الفجر بالخصومة، فإن الخلاف معه يصبح شخصيا ويتصدر وسائل الإعلام عبر وصفه القضاة المعارضين له بأنهم فاسدون، واتهامه لهم بتضارب المصالح، فضلا عن أنهم يساريون يعملون على عرقلة مهامه، بل إن ترامب خاطبهم عبر منصة تروث سوشيال بالقول، إنه ليس من حقهم تحديد أو افتراض مهام الرئيس الأمريكي، لأن النتيجة ستكون الجريمة والفوضى. وبلغ الأمر به أيضا أن طالب في سابقة رئاسية تاريخية بعزل القاضي بواسبرغ، ما دفع رئيس القضاة جون روبرتس إلى التدخل والقول إنه «لأكثر من قرنين من الزمان ثبت أن العزل ليست ردا مناسبا على الخلاف حول قرار قضائي، ولذلك وجد الاستئناف».

غرور يصطدم بالمؤسسات الدستورية

أعتقد أن لجوء ترامب إلى هذا التصعيد والهجوم الشخصي على القضاة والتشهير بهم على وسائل الإعلام بمعاونة وزيرة العدل بام بوندي، التي قللت من احترافيتهم ووصفتهم بـ»القضاة الناشطين» يعود لثلاثة أسباب على الأقل:

الأول، إدراك ترامب أن المحكمة العليا قد لا تبت في الدعاوى قبل انتهاء ولايته في 2028. فالمحكمة العليا تتلقى عشرات آلاف الدعاوى سنويا للنظر فيها، لكنها لا تستمتع إلا لأقل من 75، ما يعني أن فرصة البت بكل الدعاوى التي هو طرف فيها ليست مضمونة خلال مدة ولايته أي أربع سنوات.

الثاني، تخوف ترامب من خسارته الدعاوى أمام المحكمة العليا وهي أعلى سلطة قضائية في البلاد، أي لا استئناف بعدها، رغم وجود ستة من أصل تسعة قضاة فيها يوالون الجمهوريين المحافظين، إذ أن كثيرا من القضايا محل النزاع بين ترامب والولايات، أو القضاة الفيدراليين في غالبها تمس حقوقا دستورية كفلتها وثيقة الحقوق للأمريكيين، أو تختص بصلاحيات الكونغرس بمجلسيه النواب والشيوخ، وليست من صلاحيات السلطة التنفيذية.

الثالث، تعرض شخصية ترامب المغرورة حد الأنانية للإيذاء أمام الرأي العام الأمريكي، لاسيما مناصريه، فالرجل اعتاد أن يكون الآمر الناهي في شركاته وبرامجه التلفزيونية، يعين ويطرد من يشاء، لكنه الآن أمام مؤسسات دستورية تضع العراقيل القانونية أمام قرارته المثيرة للجدل.

نذر أزمة تقود إلى كونفدرالية غير معلنة

لكن هذا المشهد ينذر بأزمة أكبر تهدد النظام الفيدرالي في الولايات المتحدة إذا ما احتدم الصراع أكثر بين السلطتين التنفيذية والقضائية وسط شبه شلل في المؤسسة التشريعية التي يهيمن الجمهوريون على مجلسيها، فإذا ما سلك قرار ترامب إلغاء وزارة التعليم مساره نحو التنفيذ، وتولي الولايات منفردة هذه المسؤولية، بحيث تضع كل منها منهاجا ونظاما مختلفا عن الأخرى، فالبلاد أمام أولى ملامح شبه كونفدرالية غير معلنة. ويعزز ذلك قضية الإجهاض التي ردتها المحكمة العليا إلى سلطة الولايات من خلال إلغائها في يونيو 2022 الحكم التاريخي الذي يحمي حق النساء دستوريا في الإجهاض على المستوى الفيدرالي في قضية «رو ضد وايد» عام 1973. فإذا ما أحيلت كل قضية خلافية تستجد إلى السلطة المحلية للولايات الخمسين فما الذي سيبقى من الاتحاد غير الجيش والدولار والسياسة الخارجية.

مقالات ذات صلة