
سوريا الجديدة: الحرية مفتاح الاستقرار
بيير لوي ريمون
حرير- تمثل عودة سوريا إلى الحاضنة العربية وريادة الدور السعودي في هذا الاحتضان المتجدد، منعرجا جيوسياسيا وجيوستراتيجيا أساسيا. وإذا كان الاقتصاد عصب «الحرب»، عملا بالقول المأثور «المال عصب الحرب»، فالاستثمار والازدهار مفتاح الاستقرار.
بالتأكيد، إن بلدا عزل اقتصاده الرسمي، يبقى مقطوع الصلة بأية علاقات تجارية يقيمها بينه وبين بقية العالم، بل يصبح مجردا من كل الروافع التي تسمح له بضمان أبسط الخدمات لمواطنيه. وبالتأكيد، تعتبر مسألة رفع العقوبات مسألة جوهرية، لا تتم إعادة دواليب الاقتصاد إلى سكة آمنة من دونها. من هنا، كانت عبارات مسؤولة الشؤون الخارجية الجديدة في الاتحاد الأوروبي كايا كالاس جوهرية أيضا، إذا قسناها بفعاليتها الدبلوماسية: «إنها مقاربة تقوم على التحرك خطوة بخطوة».
قطاعا الطاقة والنقل، قطاعان أساسيان يعتزم الاتحاد الأوروبي رفع العقوبات المفروضة عليهما أولا. وفي مجال الطاقة، يمثل القرار الأوروبي منعرجا في المعاملات التي يعتزم الاتحاد الخوض فيها عن طريق دعم الطاقة، وبيعها وتوريدها وتخزينها والتبرع بها إلى سوريا، وإلى داخل أراضيها، بما في ذلك النفط ومشتقاته، والغاز الطبيعي والكهرباء، فبسبب العقوبات، سوريا غير قادرة على إبرام صفقات لاستيراد الوقود، أو القمح مثلا، رغم رغبة العديد من الدول، وفي مقدمتها دول الخليج، في توفير هذه البضائع. ومن المعلوم أن قطاعات الطاقة والإسكان والزراعة وكذلك الصناعات التحويلية قطاعات سيعتمد عليها أساسا في إعادة البناء، أما النقل فعنصر أساسي في مساعدة مطارات سوريا على العمل بكامل طاقاتها، ما يساعد على عودة المواطنين المغتربين أو المنفيين، وقد يسهل استقبال اللاجئين. كما ينظر بشكل طبيعي، عبر قطاع الطاقة إلى الكهرباء كعنصر أساسي لتوفير ظروف معيشية لائقة لأهل الوطن. وثمة نقطة أساسية أخرى يتضمنها القرار الأوروبي وهي، الإسهام في إعادة تفعيل الحوالات الشخصية غير التجارية إلى سوريا، لكن من منظور استراتيجي، تقاس الواجهة الأوروبية على مستوى منخفض بالنظر إلى جوهر المسألة، وجوهر المسألة قائم على الثلاثية التي يلخصها ما سيشكل – إن تحقق- مخرج سوريا من محنتها: الديمقراطية وحقوق الإنسان ودستور جديد. وعيون العالم هنا، بما فيها الأوروبية، شاخصة إلى الدور الرئيسي الذي ستلعبه كل من المملكة العربية السعودية وتركيا في تحديد ملامح سوريا المقبلة. السعودية وتركيا دولتان تتقاطع خططهما من زاوية إعادة الإعمار والاستثمارات، لكنها تختلف كليا من باب الأجندة الدولية.
السعودية أولا، حسب العبارة المعروفة، لن تضع المملكة يديها، حيث لا تستطيع أن تضع استثماراتها. عندها، لسوريا مصلحة جيوستراتيجية وبراغماتية أساسية في تعزيز مؤشرات الانفتاح، التي بدأت تتأصل بعد سقوط النظام السابق عبر :
– تمكن السوريين المغتربين والمنفيين من العودة على نحو طبيعي، حيث بوسعهم العبور عبر بوابات المطارات والحدود بمجرد الاستظهار بجواز سفر يحمل اسمهم وصورتهم.
– انخفض، بعد شهرين فقط من سقوط النظام، سعر الدولار من 15000 ليرة سورية إلى 8000 ليرة سورية وتوفر الوقود في أسواق تملؤها السلع رغم ضعف القدرة الشرائية. بواكير تحرير الاقتصاد إذن، الذي تكرسه حرية التعامل بالعملات الأجنبية، تفتح آفاقا واعدة لشعب طالما ناء تحت وطأة اشتراكية «لم تترجم كما هو مأمول منها إلى تقاسم ثروات، وإنما انتهت بالشعب إلى الفقر والخصاصة». كما يكتب الصحافي السوري علي قاسم مجيدا في تلخيص الوضع.
عيون العالم أيضا على الانتظارت التي تحتمها المرحلة الانتقالية: مكافحة الإرهاب والتطرف، حل الفصائل المسلحة، حصر السلاح بيد الدولة، تشكيل حكومة تكنوقراط تمهد لحكومة حوار وطني، في سياق لن يكرس عروبة سوريا دون استبعاد أو إقصاء أي طائفة من المعادلة الجديدة، بما فيها العلوية.
وكما يرى الدكتور سمير التقي الباحث في معهد الشرق الأوسط، متحدثا إلى «بي. بي. سي، «أن السعودية اليوم هي العمود الأساسي للعرب»، لكن يجب إضافة أيضا أنها، عبر علاقاتها التجارية والدبلوماسية المميزة بأمريكا، وبقطع النظر عن الاشتراطات القائمة لإعادة تفعيل الاتفاقيات الإبراهيمية، بوابة علاقة دول الشرق الأوسط بالمجتمع الدولي. هنا نتحدث أساسا عن الدعم الدولي الذي يمكن أن يسهم في رفع العقوبات على سوريا، وهو أمر بالغ الأهمية ليس فقط بالنسبة للحكومة السورية الجديدة، بل للاستقرار في المنطقة.
الإدارة السورية الجديدة بحاجة إلى بناء تجربة سورية مبتكرة، تصمد في المستقبل وتكسبها مستوى من الشرعية، يؤسس لها مكانة جديدة داخل الأوساط العربية أولا ثم الدولية. ولا يمكن تصور دفع لعملية التنمية الإقليمية الراهنة، دون إعادة فتح خطوط التجارة بين سوريا والعالم الخارجي. شريان دول الخليج، فضلا عن النافذة الاستثمارية التي يفتحها، سيقلل من اعتماد سوريا على إيران، في ظل مساع لتوجيه الاقتصاد نحو قطاعات مستدامة مثل السياحة والزراعة والصناعات التحويلية.
أما الاتفاق الدفاعي، الذي تسعى تركيا لتفعيله عبر قاعدتي تدمر والتيفور الواقعتين في المنطقة الصحراوية السورية الشاسعة المعروفة باسم البادية، فخطوة لترسيخ نفوذ سيكتسب شرعية بخروجه من عباءة ترسيم اتفاق مبرم، يفتح الباب من جهة لإرساء ترتيب دفاعي استراتيجي مع قادة سوريا الجدد، بحيث يطرح على الطاولة، حسب مسؤول في الرئاسة السورية الجديدة «تدريب القوات المسلحة التركية للجيش السوري الجديد»، لكن يضع أيضا تركيا في موقع استراتيجي مميز في أفق المفاوضات التي ستجرى لا محالة لاستيعاب الفصائل المسلحة داخل الجيش النظامي الجديد، وعلى رأسها قسد، على ضوء الصراع الذي تخوضه تركيا مع وحدات حماية الشعب الكردية.
استمعت هذا الصباح إلى مقابلة أجرتها الخدمة العالمية لـ»بي بي سي» مع منفية سورية في ألمانيا عادت لزيارة البلاد بعد غياب دام اثنين وعشرين عاماً. تحدثت عن سجناء الرأي، تحدثت عن الزنازين بما فهمنا أنها تتحدث عن صيدنايا وأخواته، وصفت المشهد بـ»الأمر المعروف»، «بالكاد تصدق، لكنهم فعلوا ذلك»، قالت، لكن تحدثت أيضا عن «الكنز الثمين الذي تشكله عشرات الأوراق التي ضبطت في قصر الجمهورية»، قصر الشعب من الآن فصاعدا.
الحرية لسوريا إذن، نداء سنظل نردده من كل الزوايا المعنية: حرية الرأي، حرية تنقل الأشخاص، حرية التعاملات التجارية. لكن كل السؤال إلى أي حد ستصبح سوريا الجديدة رابحة من النفوذ الناعم – والعبارة ليست سيئة في ذاتها – وليس أسيرة له. أكثر من أي وقت مضى، الأيام بيننا.