الديمقراطية على الطراز الأمريكي

لطفي العبيدي

حرير- منذ زمن الحرب الفيتنامية إلى الوقت الراهن، لم تتوقّف العدوانية الأمريكية على الشعوب. والسعي الأمريكي للهيمنة العالمية جلب الدمار لبلد تلو الآخر. وفي كل ذلك، النخب المهيمنة في الولايات المتحدة الأمريكية، دفعت بأساطير أنانية حول التزام هذا البلد بنشر الديمقراطية، في حين انتهجت سياسة خارجية متهورة تخدم مصالح قِلة من الناس وتعرض الكثيرين للخطر.

لا مؤشر حتى الآن على تراجع مثل هذه الاستعلائية والعدائية للآخر ضمن سياق الهيمنة والرغبة في التحكم بالنفس العالمي، من قبل دولة تدعي أنها مشروع امبراطورية تصحيحية. التدخلات الخارجية التي قامت بها الولايات المتحدة الأمريكية، أدت في كثير من الأحيان إلى تفاقم الصراعات العالمية، التي كانت تبرر جميعها تحت عناوين «إنسانية وخيرية» لصناع السياسات الأمريكيين.

نعوم تشومسكي وناثان روبنسون، يستنتجان بأن أنواع الأساطير التي أدت إلى حروب كارثية متكررة، ستدفعنا الآن إلى حروب مع روسيا والصين، وهو ما سيعرّض مستقبل البشرية للخطر. وبالنظر إلى الانتشار النووي وتغير المناخ، تستمر السياسات الأمريكية في مفاقمة التهديدات العالمية. يبدو أنّ مفاعيل الجوائح السياسية، لا ينفك من خلالها المولعون بالفوضى والحروب في كل مرة، تهديد أمن البشرية وسلامة الكرة الأرضية. والتحولات الاقتصادية والجيوسياسية المتسارعة تمسّ الجميع، عالم متعدّد المحاور والتكتلات، تتّسع دائرة تحالفاته وتتعاظم أخطاره. حتى الوضع في أوروبا أسوأ بكثير مما يُعتقد. تعرضت الديمقراطية لضربة عنيفة، حينما نقلت الدول الأوروبية سلطة القرار السياسي إلى بروكسل. وهو تطور صادم، خاصة عندما يتمّ تعزيز الشعبوية والقومية المتطرفة. الولايات المتحدة هي الأخرى انحدرت من الديمقراطية إلى «البلوتقراطية» وما تعنيه من حكم طبقة الأثرياء، مع ملحقات ديمقراطية بتوصيف تشومسكي. وربما الوضع سيكون أسوأ بكثير مع عودة دونالد ترامب إلى السلطة. لا يمكن لأوروبا أن تتحمل ارتكاب خطأ في المواجهة مع الصين. وهو تهديد تتصوره واشنطن في المقام الأول، ولكنه غير مقنع لعديد من الدول الأوروبية وكثير من دول العالم. ولدى الصين وروسيا الآن اهتمام مشترك لتقويض حرية الولايات المتحدة غير المقيدة في التدخل العسكري أو الاقتصادي الأحادي الجانب، في جميع أنحاء العالم، وهي حرية مارستها على مدى عقدين أو أكثر على الأقل. ساهمت عوامل محددة في تسريع التحول إلى عالم من الكتل الاقتصادية المغلقة، من ذلك فرض عقوبات غربية شديدة على روسيا، وما قابلها من تمتين للتحالف الاستراتيجي بين موسكو وبكين، ومن ثمّ إخراج المستثمرين الغربيين من الأسواق الصينية والروسية، على قاعدة أوجه التشابه الذي تصر واشنطن في سياقه على الربط بين حرب بوتين المتواصلة ضد أوكرانيا، والغزو الصيني المحتمل لتايوان.

في الشرق الأوسط وفي ما يتعلق بفلسطين، ما زالت روسيا على الأقل تدعم وقفا فوريا لإطلاق النار في غزة، كما أنها تساند حل الدولتين. وفي تقديرها إن مفتاح حل الصراع يكمن في إنشاء دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، وبطبيعة الحال هذا ليس هدف واشنطن المعلن، على أنه يبقى الهدف الأساسي للدبلوماسية الروسية يتمثل في إضعاف النظام العالمي الغربي، وهو المشروع الذي يتقاسمه معها بشكل خاص حلفاؤها الصينيون والإيرانيون والكوريون الشماليون. هناك دور ساحق للثروة الخاصة، ولثروة الشركات، ليس في الحملات الرئاسية فقط، كما يرى توماس فيرغوسون، وإنما في الكونغرس أيضا. وهذا ما أوصل دونالد ترامب إلى الرئاسة الأمريكية، وهذا ما جعله يضرب عرض الحائط الاتفاقيات الدولية من اتفاقية المناخ، إلى قراره الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة للكيان الإسرائيلي، وعزمه نقل سفارة بلاده إليها، ووقوفه إلى جانب اليمين المتطرف في التوسع الاستيطاني. نشر الديمقراطية في العالم على الطراز الأمريكي، فرضت كأساس منطقي للحديث عن الدور الأمريكي في العالم، وإذا كانت الديمقراطية الأمريكية كنظام سياسي مع انتخابات نظامية لا تشكّل تحديا خطيرا لرجال الأعمال، فإن صانعي السياسة الأمريكية يتوقون لرؤية الديمقراطية منتشرة عبر العالم، ولكن على طريقتهم الخاصة طبعا. وهذا المبدأ لا يضعف نتيجة الانتهاكات المستمرة الناتجة عن التفسيرات المختلفة لمفهوم الديمقراطية على أنها نظام يكون فيه للمواطنين دور مهم في إدارة الشؤون العامة.

وفي الداخل الأمريكي، تحصل إسرائيل على التأييد من أكثر القوى رجعيّةً في أمريكا، وهم الإنجيليون والقوميون والصناعات العسكريّة. وعندما تتوافق أهداف اللوبي مع المصالح الاقتصادية والاستراتيجية الملموسة، فإنها بالعموم تجد طريقها إلى التحقق. وأفضل مثال ما يجري في فلسطين من قتل وتدمير وتهجير، فقضية مثل القضية الفلسطينية قليلة الأهمية بالنسبة إلى المؤسسات والشركات العملاقة المسيطرة في الولايات المتحدة، والدعم الأكبر لممارسات إسرائيل وأفعالها، مستقل عن اللوبي إلى حد بعيد، لأن الداعم الأساسي هم المسيحيون الأصوليون. السياسة الإسرائيليّة القاضية بتفضيل المستوطنات والأمن على أيّ اعتبارٍ آخر، جلب إسرائيل إلى بيت الطاعة الأمريكيّ، وبات مصيرها مرهونا بدعم الولايات المُتحدة لها. يبدو أنّ الصهيونية المسيحية نجحت في تثبيت وسائل دعاية وتأثير بالغة القوة على الرأي العام. وهو المسار الثاني الذي أطلقه المبشرون الطهوريون منذ نهاية القرن التاسع عشر، والنتيجة أن عشرات الملايين من الأمريكيين أصبحوا على امتداد العقود الماضية يساندون إسرائيل من دون تحفظ، ويتوقعون منها مواصلة سياستها المتطرفة ضد العالم العربي وضد الفلسطينيين تحديدا. مع كل هذا الدعم الذي تلقته إسرائيل من الولايات المتحدة في حربها على الفلسطينيين، لن يمحو أي انتصار عسكري كامل أو غير ذلك، الهزيمة التي تعيشها إسرائيل منذ السابع من أكتوبر. حتى لو غزت الشرق الأوسط بأكمله، وحتى لو استسلم الجميع، فلن تربح هذه الحرب.. «لقد خسرنا في 7 أكتوبر، ونخسر مع كل جندي يقتل، مع كل رهينة لم تعد، مع كل جندي دمرت روحه»، ما جاء في صحيفة «هآرتس» عبّر بوضوح عن الاعتقاد بأنّ أيّ عمل من قبيل الهدم والتدمير والقتل يعمق هزيمة الصهاينة، وهم ليسوا على دراية بحجم هذه الهزيمة على نحو أنهم يرتكبون خطأ في الاعتقاد بأن هذا هو شكل النصر لكيانهم المزعوم.

مقالات ذات صلة