جيل الفدائيين الفلسطينيين الجدد

علي أنوزلا

حرير- في نشرة أخبار القناة الفرنسية، لعلّها القناة السويسرية الناطقة بالفرنسية، بينما كانت الكاميرا تتنقل بين أزقة حي سلوان في القدس، الذي نفذ فيه الطفل الفلسطيني محمد عليوات (13 عاماً) عملية إطلاق النار على مستوطنين إسرائيليين، وأصاب اثنين، أحدهما جندي في الجيش الإسرائيلي، توقفت عين الكاميرا عند صبيين فلسطينيين كانا منهمكيْن في لعبهما غير آبهين بما يقع حولهما، سألهما الصحافي إن كانا يعرفان الطفل عليوات، فردّا بصوت واحد إنه رفيقهما كان يشاركهما اللعب، وزاد أحدهما “لقد استشهد.. إنه الآن في الجنة”، وعندما سأله الصحافي “كيف تلقيت خبر وفاته؟”، أجاب الطفل الفلسطيني بتلقائية ومن دون أن يلتفت إلى عين الكاميرا، لأنه ظل مركزا على اللعب مع رفيقه “لقد نال الشهادة.. كلنا سنستشهد دفاعا عن أرضنا”.

ولكن الطفل عليوات كان قد أصيب بجروح ونقل إلى المستشفى، وجاءت عمليته الفدائية بعد استشهاد ابن حيّه خيري علقم (21 عاما) الذي حمل مسدّسه وقتل سبعة مستوطنين إسرائيليين وجرح آخرين، انتقاما لاستشهاد تسعة شهداء في جنين، وسقوط جرحى كثيرين جراء عملية اقتحام إسرائيلية، ولكن أيضا انتقاما لجدّه الذي استشهد قبل نحو ربع قرن في الحي نفسه طعنا بسكين من مستوطن إسرائيلي.

لا يتعلق الأمر بحوادث تقع كل يوم في الأرض التي لم يتوقف فيها الصراع منذ ظهرت حرب الهويات القاتلة. نحن أمام ميلاد حركة فدائية فلسطينية جديدة، لا اسم لها ولا أيديولوجية، ولا تنظيم، ولا قادة، أبطالها هم جيل الشباب الفلسطيني الصاعد، الجيل الذي فقد الأمل في كل شيء إلا في عدالة قضيته وفي حقّه في العيش بحريةٍ وكرامةٍ على أرض أجداده. لقد أفزعت هاتان العمليتان الفدائيتان الحكومة الإسرائيلية المتطرّفة، وأعادت تسليط الضوء على القضية الفلسطينية بعد أن تراجع الاهتمام بها دوليا أمام الحرب في أوكرانيا، ودفعت وزير الخارجية الأميركية، أنتوني بلينكن، إلى الهرولة نحو المنطقة، حرصا على “أمن إسرائيل”، لوقف ما وصفها بـ “دوامة العنف”، فيما كانت حكومة بلاده قد اكتفت، قبل أيام فقط، بالدعوة إلى “الهدوء وضبط النفس” عند استشهاد الفلسطينيين التسعة وجرح آخرين في هجوم إسرائيلي عدواني على جنين.

نحن أمام جيل فلسطيني لا يقبل الاستمرار في العيش تحت الاحتلال، فاقدا كرامته وحرّيته، جيل يحمل ذاكرة الأجداد ويحميها وينفذ وصية الشهداء، سائرا على درب التحرير نحو القدس، جيل تجاوز كل قادة شعبه وساسته يُموقع نفسه خارج كل التنظيمات والفصائل والأحزاب والمسمّيات، متمسّك بهويته ومؤمن بقضيته توّحده روح المقاومة والفداء من جنين إلى القدس ومن غزّة إلى رام الله.

هذا الجيل هو الذي أعاد فتح أعين العالم على الانتهاكات الإسرائيلية، وجرائمها اليومية ضد أبناء الشعب الفلسطيني الأعزل، وفضح السياسات التوسّعية الاستيطانية التي تنفّذها حكوماتها اليمينية المتطرّفة والفاشية، وعرّى نظام الأبارتهايد المرعب الذي تطبّقه شرطتها وجيشها ومحاكمها وإداراتها. وأفشل كل اتفاقات التطبيع مع الاحتلال، لأن الشعوب المستهدف الأول بالتطبيع لم تلتحق برِكابه، وتعبّر في كل مرة تتاح لها فيها الفرصة للتعبير عن رأيها بحريةٍ عن تضامنها مع مظلومية الشعب الفلسطيني في شوارع التظاهر وميادينه في المدن العربية وداخل ساحات الجامعات والمعاهد وفي مدرّجات ملاعب كرة القدم.

لقد أدّت سياسات الحكومات الإسرائيلية المتطرّفة على مدى السنوات والعقود الماضية إلى القضاء على كل فرص السلام التي تقدّم بها العرب، وتقدّم بها الفلسطينيون، ولم تترك إسرائيل، منذ اتفاقات أوسلو، أمام أجيال الفلسطينيين الشباب من خيارٍ آخر سوى خيار المقاومة. وفي المقابل، وكمن يصبّ مزيدا من الزيت على النار، تحوّلت إسرائيل نفسها من مشروع استعماري استيطاني إلى مشروع كيان ديني عنصري يحكمُه نظام أبارتهايد مقيت ويقوده متطرّفون فاسدون فاشيون قتلة ومجرمون.

وأمام توسّع الاستيطان، وتصاعد سياسات الفصل العنصري، وصعود المتطرّفين والفاشيين والمجرمين والفاسدين إلى سدّة الحكم في إسرائيل، وتحويل ما تبقّى من أرضٍ فلسطينية إلى كانتونات ممزّقة ومحاصرة، وقتل كل فرص حل الدوليتين، إلى درجة أصبح معها كل من يطالب اليوم بهذا الحل كمن يطلب مزيدا من الوقت لإسرائيل، لتقضي على ما تبقى من القضية الفلسطينية. وأمام انسداد كل الأفاق في وجه الفلسطينيين وضيق مساحة الأمل أمام الأجيال الصاعدة منهم، يصبح طريق الكفاح والمقاومة بكل أنواعها وبكل الأدوات والأساليب الممكنة والمتاحة هي الطريق الوحيدة السالكة، ليعلن الشاب الفلسطيني عن وجوده تحت كل هذا الركام من التجاهل والنسيان والإهمال، بل والمتاجرة بقضيّته على حساب حقه في العيش بحرية وكرامة وأمان فوق أرض أجداده التاريخية.

كان مؤسّس الكيان الصهيوني على أرض فلسطين التاريخية، ديفيد بن غوريون، يقول، إبّان النكبة عام 1948، إن “الكبار يموتون والصغار ينسون”، معتقدا أن القضية الفلسطينية سرعان ما ستدخل إضبارة النسيان! لكن ما نراه اليوم هو ميلاد حركة فدائية فلسطينية جديدة أبطالها أطفال وشباب في مقتبل العمر، زادهم ذاكرتهم الفلسطينية الحية التي لم تستطع 75 سنة من الاحتلال محوها رغم كل عمليات القتل والتنكيل والتهجير والإبعاد والتشريد والنفي والاعتقال وهدم البيوت وتجريف الحقول، بل، وظلت متّقدة مثل قنبلة موقوتة، وما نراه اليوم هو فقط أصوات شراراتها الأولى التي تُنبئ بقرب لحظة الانفجار العظيم.

تعيش إسرائيل حالة رعب منذ تأسيسها، وهي لا تستطيع الاستمرار في العيش بدون حروب. حاربت الفلسطينيين وحاربت اللبنانيين وحاربت العرب مجتمعين، هاجمت العراق، وتدقّ منذ عدة سنوات طبول الحرب ضد إيران.. وعندما ستُنهي جميع حروبها، ولن تنتهي، مع “جيرانها” و”أعدائها” في الخارج والداخل، ستُحارب نفسَها، وقد بدأت تظهر بعض ملامح هذه الحرب المستقبلية الإسرائيلية ضد إسرائيل، يغذّيها يمينٌ متطرّف وفاشي، وتزكّيها نصوص توراتية من “العهد القديم” تمجّد القتل والعنف والحرب، ما دفع أحد كتاب الافتتاحيات الفرنسية إلى الصراخ عاليا: “انقدوا إسرائيل من إسرائيل”!

مقالات ذات صلة