عن متابعة هويّات متنافرة في كأس العالم

شفان ابراهيم

حرير- تحتضن دولة قطر العرس الكروي العالمي بمشاركة 32 من المنتخبات العالمية، أربعة منها عربية. والدارج أن تُشجع مختلف الشرائح الاجتماعية، وخاصة فئة الشباب، منتخباتٍ أجنبية تعشقها عبر لاعبيها أو طريقة لعبها وتاريخها الكروي، بغضّ النظر عن الخلفيات السياسية، أو هويّة تلك المنتخبات بالنسبة إلى المشجّعين، فهي رياضة وهواية، وتخصيص جزء من الوقت للمتابعة والاستمتاع.

لكن إحدى المقاربات تكمن في سحب الصراع الهويّاتي للقوميات المختلفة على الرياضة. فهل سيشجّع الكُرد، على سبيل المثال، المنتخبات العربية المشاركة، أو مثلاً هل ستجد سورياً عربياً مُعارضاً يُشجع المنتخب الإيراني، أو أن يُشجع مؤيدون للنظام السوري المنتخبات: الأميركي، الفرنسي، السعودي، القطري، أمثلة. من الصعب القول إن الرياضة والسياسية منفصلان ولا علاقة بينهما، بعد أن أتت السياسة على كل شيء، بما في ذلك الرياضة. والأخطر فيها دور الاحتقان الهوياتي في الدول والمجتمعات المركبة، التي لا تجد أحداً يقف إلى جانبها أو يعبّر عن همومها ومآسيها، ودوره في إنتاج باعث نفسي – سياسي للمقموعين لتسيير السلوكيات التي تعبّر عن نفسها دوماً، فتجد تلك الشعوب في مباراة رياضية إحدى الفرص للتنفيس والتعبير. كأن يعزف المتابع العربي عن تلقف أخبار الأندية الكردية في سورية أو كردستان العراق، أو يعزف أبناء القوميات الخاصة، كالكرد وغيرهم، عن متابعة أخبار المنتخبات العربية المشاركة في كأس العالم. وأعتقد أنها لو كانت ستشجع منتخبات قطر، السعودية، تونس، المغرب، في مبارياتها المختلفة، لكان أفضل لها، فتلك الدول أقرب إلى الوسط الكردي من الآخر الذي هو أيضاً شريكٌ في هدر دماء السوريين. ولكن على الأغلب، إذا كان الطرف الخصم مع تلك الدول العربية، أحد المنتخبات التي يُشجعها المتابع الكُردي/ العربي، فهم سيشجعون منتخباتهم المفضلة. فيما نجد أن الشارع الرياضي الكردي يُشجّع بحرارة دولاً مثل فرنسا وألمانيا وإنكلترا، وهذا طبيعي. ولكن إذا كانت القضية تتعلق بمآلات الهويّة الكردية، فإن المسبّب لها هو الأنظمة القديمة لتلك المنتخبات الأجنبية، لا العربية التي هي نفسها تعيش تحت وطأة ظلم وحَيف. كما شاركت إنكلترا في قهر الكُرد إبّان استفتاء إقليم كردستان عام 2017. فلماذا لا يعجب بعضهم تنظيم قطر كأس العالم، انطلاقاً من مواقفها ما حصل في سورية وحدثها الثوري. أوليست منتخبات أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا والسعودية وإيران، إلخ مشاركة في البطولة، وهي منتخبات لدول لها وجود فعلي بأحجام مختلفة في سورية.

لم تسلم الرياضة نفسها من لوثة السياسة، وزيادة حدّية الضغط تؤدّي إلى حدّية المواقف، وإنْ باتجاهات خاطئة، منها مواقف الشارع الكُردي، كردّ فعل على طمس الهويّة الكُردية عقوداً طويلة، لكنه الموقف البعيد عن الطرف الرئيسي في الصراع، التي هي الأنظمة والحكومات التي تتشارك في قمع الهويّة الكُردية، لتصل إلى الطرف المُشارك للكُرد في همومهم، حيث القمع المزدوج، كالشعوب العربية ومنتخباتها وفرقها الرياضية التي لا يلقى كثير منها الاهتمام المادي والمعنوي المطلوب، فتكون في أسوأ الحالات والتاريخ الكروي. ولنتفق على أن عسفاً فكرياً وتخلفاً كبيريْن، في قضايا الرياضة والمواقف منها، يجتاحان الفكر والتوجهات لدى مجتمعاتٍ كثيرة مركّبة، فإذا كان الصراع هو بين الضحية والجلاد، فإن الأنظمة تشتغل على تغيير مسار التوجّه، وإشغال الضحايا بعضهم ببعض، عوضاً عن التوجّه صوب الجهة القامعة والجلاد الذي لم ولا يفرّق بين الضحايا.

تابعت في مطعم في مدينة قامشلو، قبل بضعة أعوام، مباراة لفريق أربيل من كردستان العراق في بطولة الأندية الآسيوية. لم أستطع تفهم طبيعة بضعة شبان من قرى جنوب الرد في محافظة الحسكة، وهم يُشجّعون نادياً من جنوب شرق آسيا. تبادلنا الحديث الذي بدا واضحاً عليه رغبتهم في الاختصار “أحسن ما شجّع فريق كُردي”، علماً أن أبناء جنوب الرّد لم يتمتّعوا بالماء النظيف والمُحلى إلا قبل سنتين أو أقل قبل الحدث السوري. انحصر همّه في خسارة فريق كُردي مقابل فريق آخر لا يكاد عقله يسعفه في حفظ أسمائهم الغريبة.

في ليلة مباراة المنتخب التونسي ضد نظيره الإنكليزي في كأس العالم في روسيا (2018)، أسعفتني ذاكرتي لمراجعة حواري مع ابن جنوب الرّد. في أحد المتنزهات الصيفية، انقسم الحضور بين مشجّعين للمنتخب التونسي وآخرين للإنكليزي، وكان الأخير وفق شريحتين، مالت الأولى إلى تشجيع الإنكليز بشيءٍ من العاطفة الميالة نحو أحد المنتخبات التي يعشقها أو يشجّعها أو يرغب في أن يجدها فائزة. ووجدت الشريحة الأخرى في فوز المنتخب الإنكليزي ارتياحاً من منطلق القضية الكُردية في صراعها مع الأنظمة العربية. تلخص هذه اللوحة مواجهة مع لوحة العربي في رغبته بفوز الفريق الآسيوي على نظيره الكُردي، تُلخص بهدوء مجرى التأسيس لذهنياتٍ لا يمكنها الخروج من التأطير.

في محصلة المباراتين، تنقسم الذاكرة بين اتفاق قسم من الأنظمة العربية ضد التطلعات المشروعة للقوميات والشعوب المغايرة، (وردّة فعل تلك الشعوب حيال كُل ما يخصّهم)، ومظلومية الشعوب العربية جرّاء الجوع والفقر وآلة القتل، وفوقها فقدانهم الإحساس بآلام الآخرين، وهم الفاقدون أي حلمٍ أو حقٍّ في بلدهم. في تلك اللحظات، لم يكن المنتخب التونسي سبباً في تجريد مئات الآلاف من الكُرد لجنسياتهم. وليس المنتخب القطري سبباً لفقر حالهم وحرمانهم الشديد، كما لم يسبب أي منتخب عربي تشكيل الحزام العربي وسلب أراضٍ زراعية من أصحابها الكُرد، أو كان مُسبّباً لتعريب المدن والقرى الكُردية وتغيير أسمائها وحرمان أبنائهم تأسيس الجامعات والمعاهد في المناطق الكُردية. كذلك لا علاقة للأندية الكردية، في سورية والعراق، ولا حتى منتخب إقليم كردستان الفدرالي بالثورات المضادّة حيال تطلعات الشعوب العربية من الانعتاق وسؤالها عن الحرية.

ثمّة قواسم مشتركة بين المشجعين العرب والكُرد، فكلاهما تاه في غياهب المعارك الجانبية بين الشعوب التي تتشابه في مظلوميتها من مراسيم وقرارات تصدر عن أنظمة تلمّ الجميع تحت سياطها. اللاتوازن الذي يعيشه الرياضي السوري، وربما غيرها من الدول، بكُرده وعربه، يدفع إلى أحد أمرين: القسوة أو التمزق الداخلي. ومَن كالسوريين يعيشون هذين التركيبين المتحاربين والمتناطحين، تمزّقاً داخلياً وقسوة في الردّ على الجهة التي لا تمتّ بصلةٍ إلى ضياع حقوقه.

وللأمانة، حتّى ما قبل بدايات الحدث السوري، كانت الاتجاهات السياسية للكرد السوريين بعيدة عن ربطها بالرياضة، فكانوا ينظرون إلى المنتخب السوري رمزاً للجميع، وسقف مطالبهم من ذلك المنتخب كانت رغبتهم في وجود من يمثل نادي الجهاد، بما يشكله من رمزية فاقعة للكُرد في عموم مناطق الوجود الكُردي في سورية، ضمن ذلك المنتخب، وهي رسالة واضحة في مساعي الكرد إلى الفصل بين مؤسسات الحكومة السورية التي أرهقتهم ومزّقتهم وقست عليهم بكل شيء، والانتماء إلى منتخبٍ يمثل وطناً سعى الكُرد للشعور بالانتماء إليه، ولم ينظر المُهتمون الكُرد إلى المنتخب الوطني بالنظرة ذاتها إلى دوائر القرار والمؤسّسات المجحفة بحق قضيتهم العادلة، على الرغم من أن المنتخب الوطني إحدى المؤسسات والرموز الوطنية للدولة السورية. لكن المعادلة تغيّرت كثيراً بعد عام 2011. وعبر مسيرة المنتخب السوري، ومحاولة الوصول إلى المونديالين الحالي والسابق، انقسم السوريون، كرداً وعرباً، على أنفسهم بين مُشجّع ومؤيد له، وبين من نعته بمنتخب البراميل، ومنتخب القتلة. وحديثاً، اكتشف السوريون ما اكتشفه الكُرد قبل عقود، وأنه لا مجال لإنكار دور التأثير النفسي في وضعية المقهور والمظلوم، وأن ضياع البوصلة من سمات الشخصية المقهورة. فلو شارك المنتخب السوري اليوم في مونديال قطر، إلى جانب من سيقف الرياضي والمُهتم السوري بكُرده وعربه، خصوصاً لو افترضنا أن المنتخب السوري لعبَ إلى جانب المنتخب التركي بما قدّمته حكومة تركيا للسوريين، وحساسية شريحة واسعة من الكُرد تجاه تركيا، أو المنتخب الروسي بما فعلته دولتهم بسورية وشعبها، أو أن المنتخبين، السوري والقطري، لعبا في أدوار إقصائية، مع من سيتعاطف الإعلامي والسياسي السوري؟

لو اتفقنا أن لا فصل بين الرياضة والسياسة، فهل يحق للكُردي أن يُشجع الإنكليز أو منتخب أي دولة أوروبية أخرى، أم أن الوسط والجغرافيا القريبة أبدى وأفضل وأهم، وتشجيع منتخب عربي يساهم في إيجاد أجواء أكثر راحة وألفة؟ وهل يحق للسوري أن يتأفف أو يستهجن تشجيع الكُردي منتخباً أجنبياً ضد منتخب دولة عربية لم تكترث لحال السوريين، ولو بعلبة واحدة من حليب الأطفال؟

لم يدرك بعض الكتّاب والوسائل الإعلامية، وهم مستغرقون في حملاتهم العدائية لبطولة كأس العالم في قطر، أن دولة عربية، على صغر مساحتها وفاعليتها في ملفّات جيوسياسية مهمة، وتنظيمها البطولة، قد تكون جسر التواصل الحقيقي بين مختلف القضايا والشعوب والثقافات والحضارات المختلفة، ويبقى الكرد بعيدين عن ذلك الاحتفال ما داموا ليس لديهم منتخب يرفع علمهم. ولكن كان بالإمكان المشاركة عبر كوكبة من الإعلاميين والمثقفين والكتّاب، بعيداً عن ملتقيات القيادات والمسؤولين الرسميين التي غالباً ما تنتهي بالبيانات. وربما كان الخيار الأفضل أن يُشجع كل متابع المنتخب الذي يرغب فيه ويحبّه، ولا يعيب على غيره خياراته الرياضية، وأن يفصل بين الرياضة وحقوقها وأطرافها المظلومة من جهة، ومن جهة أخرى، الموقف من أنظمة تلك المنتخبات.

 

مقالات ذات صلة