حكومة المستوطنين تتوق إلى “السلام العادل”

محمود الريماوي

حرير- نجح كل من الأردن ومصر في جمع مسؤولين فلسطينيين وإسرائيليين في العقبة في أول لقاء بين الطرفين منذ نحو تسع سنوات، تخلّلها تشكيل حكومة في تل أبيب تناوب على رئاستها كل من نفتالي بينت ويئير لبيد، وسميت “حكومة التغيير”. وقد تمسّكت تلك الحكومة برفض إجراء مفاوضات سياسية مع الجانب الفلسطيني. وقد استغلت كلٌّ من عمّان والقاهرة حاجة حكومة نتنياهو لطمأنة الجمهور الإسرائيلي على الوضع الأمني، وكذلك حاجة هذه الحكومة، الموصوفة بأنها يمينية متطرّفة، إلى تحسين سمعتها السياسية في العالم، من أجل الدفع نحو هذا اللقاء. أما الطرف الفلسطيني، فإن احتياجاته الأمنية أكبر بكثير من حاجات الاحتلال، في ضوء الاقتحامات للمدن واستعراض القوة والتنكيل بالمدنيين وهدم البيوت، علاوة على استشراء الغزو الاستيطاني.

وبينما سعت القاهرة وعمّان والسلطة الفلسطينية إلى إضفاء طابع سياسي على الاجتماع، بحضور وزيري الخارجية المصري سامح شكري والأردني أيمن الصفدي، فإن الجانب الإسرائيلي حرص على تظهير الطابع الأمني بدون مواربة، بتكليف مستشار الأمن القومي، تساحي هنغبي، لرئاسة الوفد، إلى جانب رئيس جهاز الشاباك وممثل الاحتلال في إدارة شؤون المناطق الفلسطينية. فيما سعى الطرف الفلسطيني إلى المزج بين ما هو سياسي وأمني بتشكيل الوفد إلى الاجتماع الذي عقد الأحد، 26 الشهر الماضي (فبراير/ شباط).

وفي البيان الذي صدر بعد الاجتماع الذي استغرق يوما وتخللته “مناقشات صريحة”، بدا أن الممثلين الأمنيين لحكومة المستوطنين باتوا يؤمنون بالسلام العادل والدائم والالتزام بالاتفاقيات الموقعة، وبضرورة وقف الإجراءات الأحادية، وبأهمية اتخاذ إجراءاتٍ لبناء الثقة المتبادلة، واحترام الوضع القائم للمقدسات. كما وافقوا على وقف مناقشة مزيد من البناء الاستيطاني مدة بين ثلاثة وستة أشهر، مع الاتفاق على لقاء جديد في مارس/ آذار الجاري. غير أن ما ورد في البيان لا يعدو أن يكون كلمات معسولة وجوفاء، لم تكذبها الوقائع فقط، وذلك بانتقال الوضع في الأراضي الفلسطينية المحتلة من سيئ إلى أسوأ عقب الاجتماع، بل إن البيان نفسه مخاتل، ولا يلزم الطرف القائم على الاحتلال بشيء، فعبارة السلام العادل الدائم بقيت مجرّد عنوان هلامي بغير أي تفصيل، علماً أن حكومة المستوطنين تؤمن، بخلاف العالم كله، بأن السلام يعني الاستيلاء على الضفة الغربية عبر الاحتلال الاستيطاني، مع حكم محلي منقوص لما يعتبرونها تجمّعات فلسطينية، مع حق استباحة هذه التجمّعات في أي وقت، ومنع النمو الفلسطيني في غير مناطق أ التي تضم 21% من أراضي الضفة الغربية. أما الاتفاقيات الموقعة فلا تعدو، في نظرهم، سوى الاتفاقيات الأمنية التي تُلزم السلطة بمطاردة مقاومين مسلحين. لا مكان مثلا لاتفاق أوسلو ومرحلته الثالثة التي تتطلب الخوض في مفوضاتٍ بشأن الوضع النهائي. كذلك بما يتعلق بالإجراءات الأحادية، فهذه لا تعريف ولا توضيح لها، ولا تنطوي على أية التزامات من القوة القائمة على الاحتلال وذراعها الاستيطاني المسلّح.

الأمر الوحيد في البيان، وتضمّن التزاما محدّدا يتعلق بالاستيطان، هو التزام الجانب الإسرائيلي بعدم مناقشة مشاريع استيطانية جديدة فترة لا تقل عن ثلاثة أشهر ولا تزيد عن ستة، غير أن ذلك لا يعني وقف البناء.. لماذا؟ لأن حكومة المستوطنين قرّرت قبل عقد اجتماع العقبة شرعنة نحو 12 مستوطنة، إضافة إلى بناء 9400 وحدة سكنية جديدة. وبما أن هذه القرارات سابقة على عقد الاجتماع، وبما أن قرارات العقبة تتعلق بالحاضر وبالمستقبل المنظور لا بـ”الماضي”، فإن حكومة نتنياهو سوف تشرع في تنفيذ قراراتها السابقة، وبناء أكثر من تسعة آلاف وحدة سكنية سوف يستغرق ما لا يقل عن ستة أشهر، ما يعني أنه لا حاجة فعلاً خلال تلك الفترة القصيرة لقرارات استيطانية جديدة. وفي المحصلة، انتزع الوفد الأمني الإسرائيلي من الوفد الفلسطيني، وبحضور عربي وأميركي، غضّ النظر عما هو مقرّر قبل التئام اجتماع العقبة. ولهذا، لم يكن غريبا أن يتبارى مستوطنون يحملون صفة وزراء في القول إن البناء الاستيطاني لن يتوقف يوما واحدا، وهو ما شدّد عليه وزير الخارجية إيلي كوهين، الذي غاب متعمّدا عن اجتماع العقبة، بقوله، خلال زيارة إلى ألمانيا، إن البناء لن يتوقّف أبدا (مع منع البناء عن الفلسطينيين أصحاب الأرض، وهدم بيوت قائمة لهم)… أما عن احترام الوضع القائم للمقدذسات، فقد تسرب أن الجانب الإسرائيلي وعد بالنظر في تقليل عدد المقتحمين للأقصى، وألا يكون بين هؤلاء وزراء.. وهذا مما يُغني عن أي تعليق.

يملك المستوطنون الآن حكومةً تمثلهم بالدرجة الأولى بين شرائح المجتمع الإسرائيلي، ويمتلك هؤلاء مليشيات مسلحة تتخذ ما يطيب لها من قرارات، مثل إحراق بلدة حوارة، وما على قوات الأمن الداخلي سوى مواكبة المستوطنين الإرهابيين المسلّحين لضمان أمنهم في الاعتداءات، ولا بأس بتوقيف بعضهم لزوم الشكليات نحو 48 ساعة للدردشة معهم، ثم إطلاق سراحهم جميعا.

لطالما وُصفت الدولة العبرية بأنها جيش يمتلك دولة، وهو وصفٌ صائب، لولا أنه تقادم بعض الشيء، فواقع الحال الجديد يكشف أن المستوطنين باتوا هم الطلائع والقوة الاجتماعية الضاربة، ولهؤلاء حكومة وأغلبية برلمانية، فيما بات المستوى الأمني في الدولة العبرية يخضع لهم، إذ تتركّز جهودهم على الضم الفعلي للضفة الغربية. أما إذا كانت هناك نية لخوض الحرب مع إيران أو مع حزب الله مثلا، فتلك مسؤولية تتعلق بالجيش، ولا يتدخل فيها إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموطريتش، فيما يستهدف موضوع الإصلاح القضائي، بين أمور أخرى، إطلاق يد الغالبية في الكنيست ويد الحكومة من دون تقييدات من المحكمة العليا. ولهذا تنطق التظاهرات الاحتجاجية الأسبوعية الواسعة بخوف شرائح من الجمهور الإسرئيلي من أن ينالها نصيبٌ من القمع المتمادي بعد الزحف النيابي والحكومي على سلطات القضاء. وبالنسبة لنتنياهو، “تلك هي ديمقراطيتنا وخيار الشعب”، كما يقول في ردّه على انتقادات غربية.

تستحقّ حكومة المستوطنين تشديد العزل عليها ومواجهتها سياسيا، والعمل على تصنيف المليشيات المسلحة بأنها تنظيمات إرهابية، وذلك في ملاقاة مع التحفظات الأميركية والانتقادات الأوروبية لهذه الحكومة، ولا يعني ذلك بالضرورة وقف أي اتصالات معها، لكنه يعني وقف الانسحار بألاعيبها الكلامية، والاحتكام إلى أفعالها الإجرامية اليومية لتقرير السياسة الصالحة للتعامل معها. وعلى الجانب الفلسطيني، عدم تقييد المقاومة الشعبية المدنية، واختيار مفاوضين أكفاء ذوي صلابة سياسية، لا أن يجرى اختيار موظفين كبار قد تنحصر خبراتُ بعضهم في التنسيق الأمني الذي يضرب عرض الحائط بأمن الشعب الرازح تحت الاحتلال.. فهل يُعقل أن يكون حتى الخطاب الأميركي أقوى، إذ يدعو إلى “تدابير متساوية في الأمن والازدهار والحرية للفلسطينيين والإسرائيليين؟”.

مقالات ذات صلة