إزالة أثر العدوان..! حسين الرواشدة
ما حدث في عالمنا العربي على امتداد السنوات الماضية كان (كارثة) بامتياز، صحيح ان الشعوب حاولت ان تنهض لاستعادة حريتها وكرامتها، وصحيح أنها احست في لحظة ان مخاضاتها ربما كانت (حملا كاذبا) أو حلما يتربص به الكثيرون لاجهاضه، لكن الصحيح ايضًا ان الذين أسدلوا الستارة في نهاية (الفيلم) قرروا ان يكون العنوان هو (الكارثة)، ليس – فقط – لأن (الكوارث) ماركات عربية مسجلة وإنما لأنها الوصف الدقيق والتشخيص المناسب لهذه الدراما التاريخية التي كنا نتصور ان بطلها الوحيد هو الشعب، لنكتشف أنه لم يكن أكثر من (كومبرس) ادى ما عليه من دور ثم استقال وتحول الى مجرد (ضحية).
من المفارقات ان الكارثة الجديدة كانت من حيث النتيجة أسوأ من كل الكوارث والنكبات التي تعرضنا لها فيما مضى من عقود، فهي،اولا، جاءت مفاجئة لأنها تسللت من (حلم) ثورات كان من المفترض أن تتمخض عن انتصارات، وهي ثانيا صناعة ذاتية، حيث لم نهزم بفعل حوادث (الطبيعة) او بسبب أعداء خارجيين وانما بفعل (الشركاء) الذين يتقاسمون الوجود والمصير، وهي – ثالثا- صادمة لأن ما نتج عنها هو (احتلال) العقول واطلاق مارد الجنون، فيما كانت الكوارث والنكبات السابقة متوقعة وبفعل عدو نعرفه وندرك ما يريده، وما فعله هو احتلال الارض لا احتلال الانسان.
على هامش ما حدث في (الكارثة) لدي خمس ملاحظات استأذن بتسجيلها، أولاها أنها كشفت أن الشعوب العربية وقعت بين فكي كماشة (الاستبداد)، فقد نهضت في لحظة انفجار لتتخلص من الاستبداد السياسي الذي سرق منها أعمارها لكنها -للأسف- وقعت في (فخ) الاستبداد الديني الذي اراد أن يعيدها الى بيت الطاعة من جديد، وهذه الصورة تبدو واضحة تماما فيما حدث في العراق(دعك من بعض الدول الأخرى) حيث يواجه الذين ارادوا أن يتحرروا من (استبداد السياسة) وجها آخر يتواطأ معه، وهو استبداد المرجعيات الدينية التي لا تختلف ابدا عن نظيراتها في (السياسة)، إن لم تكن في ممارساتها اخطر منها.
أما الملاحظة الثانية، فهي أن هذه الكارثة اتسمت بنوع خاص من (فجور) الذات العربية المجروحة، لا اتحدث فقط عن الفجور السياسي وغياب اخلاقيات الخصومة السياسية، وانما ايضا ثمة فجور ديني غير مسبوق، سواء بين اتباع المذاهب والطوائف او داخل المذهب والطائفة نفسها، ومع ان (الذات) المجروحة غالبا ما تتسم بصفات وردود افعال اخرى تتناسب مع حالة الضحايا، الا ان (فجورها) كان صادما وغير مفهوم، وربما كان تفسيره الوحيد انه يعبر عن (مكبوتات) تاريخية متراكمة ظلت مسجونة داخل هذه الذات لقرون طويلة ثم جاءت اللحظة التي انكشف فيها المستور عن هذه الشخصية العربية التي اختارت (الكراهية) عنوانا لها.
أما الملاحظة الثالثة، فهي أن هذه الكارثة الجديدة اسقطت نظرية العدو المشترك (اسرائيل) واستبدلتها بنظرية (الاخوة الاعداء)، أو (الذات العدو)، حيث ان كل الصراعات والحروب التي تدور – ولا تزال- على تخوم هذه (الكارثة صراعات وحروب بين ابناء الملّة الوطنية والدينية الواحدة).
أما الملاحظة الرابعة، فهي أن الكارثة اشهرت وفاة (الضمير العربي)، حيث اختفى صوت الحكمة والعقل تماما، وغاب العقلاء والحكماء عن المشهد، وفي مقابل ذلك امتد (الجنون) فوق الساحات وعلت أصوات الشعوب وكأنها استسلمت لواقعة (اليتم) الحقيقي بعد ان تركها (الآباء) وحيدة في الساحة.
الملاحظة الخامسة، ان الكارثة اختزلت في عنوان (فتنة الهوية)، ومع ان اختيار العنوان وما يشير اليه من وقائع واحداث احيانا يبدو صحيحا ومفهوما، الا أنه عنوان (كاذب) ومغشوش، ذلك أن اقطارنا العربية لا تعاني من صدام الهويات ولا من صراع الجنسيات، فلديها ما يكفي من المشتركات لكي تتوحد عليها، لكن الذين أرادوا اجهاض حلمها واعادتها الى سكة (الاستبداد) صمموا على أن تكون (الفتنة) على صعيد الهوية لأنها الوصفة الأخطر لتحقيق اهدافهم وتشظية الشعوب التي ترفضهم وتقاوم مخططاتهم وممارساتهم.
تبقى ملاحظة سادسة وضرورية، وهي ان الشعوب غالبا ما تنهض بعد الكوارث لازالة (آثار العدوان) عليها، واعتقد أننا حتى وان لم تحسم هذه الكارثة جولتها الأخيرة، بحاجة الى التفكير جديا في مسألة (إزالة آثار العدوان)، والعدوان المقصود ليس كما الفناه فيما سبق، سواء على صعيد احتلال الارض او تدمير البلاد، وانما يتجاوز كل ذلك الى ما حل بالعقل والوجدان العربي، او ان شئت الدقة – بالانسان العربي- على المستوى الديني والسياسي والاجتماعي والحضاري من (عدوان) ربما كان شريكا فيه، وهو بحاجة اليوم لازالته من اجل بناء واقع جديد ومجتمعات جديدة تنتصر على ذاتها، ومن اجل ذاتها، لكي تتفرغ لدحر الاستبداد والقمع والفساد، وتحرير ما احتل منها من حرية وكرامة وعدالة، ومن ارادة وشرعية ايضا.