وسط البلد في عمَّان… آية توفيق مهيرات
وليس المكان مساحةً فحسب إنه حالةٌ نفسية أيضاً، هذا ما قاله محمود درويش ذات مرَّة ولا أنكرُ أني أُؤمن بما قال، فلكل مكان روحه التي لا تُشابهها أرواح الأمكنةِ الأخرى، له أضواءه وأصواته وروائحه وصورَّه وأشكاله، له أشياء كثيرة تبقى عابقة في ذاكرة من مرَّ بهذا المكان كوسط البلد في عمان.. منطقة البلد أو ما نُسميها بوسط البلد وهي كقلب للعاصمة عمَّان يضّخ حيويةً وفرحاً وسرور ويُسرِّب ذكرياتٍ لا تزول، مُعظم أهالي عمان إن لَم يكن مُعظم السكان في الأردنِ وهو بلد الأمن والأمان قد زاروا وسط البلد.
من مواقف السرافيس التي يتعيَّن على كل من أراد المرور بين الجبلين المرور بها، ومن شوارعه المكتظة دائماً بكل الطوائف والألوان والثقافات والأجناس والأديان، ومن بسطات التجار على جوانب الشوارع والأزقةِ وعلى الجدران، ومن محالِّ الألبسة القديمة والحديثة للذكور والإناث وكبار السن والصِبّيان، مروراً بمحالِّ الذهب الأبيض والأصفر الحديثِ والمعتَّقِ والتي تخطف أبصار الإنسان، ورائحة الفستق المحمَّص الممزوجة برائحة بواعث السيارات وما يعرِضه العطّار من بهارات وما زلنا في نفس المكان يا وسط البلد في عمَّان.
شوراعها الطويلة الواسعة والضيقة، وليلها المُضاء بمئات الأضواء بشتّى الألوان والتي تزداد جمالاً في أوقات الأعياد وأيامِ رمضان واختلاط أصوات صلوات الكنائس مع أصوات الآذان، ثم الشعور بالعطش الذي يعلم أنَّ هناك تمراً هندياً أو شرابَ السكر بانتظاره فتروي هذا العطش لِتُكمل طريقك حتى تصطدِم بك رائِحة الفلافل من مطعم هاشم القديم والتي يقابلها رائِحةُ الشواء من عند شهرزاد فتحتارَ لتختار ولكنك ستكون موفَقٌ بِكلا الخيارين، وتَظُن أنَّك انتهيت فتكمِل ما كنت قد بدأت به من السير لترى صفّاً طويلا ًمن الانتظار يبدأ من مكانٍ صغير تعلوه لائحة كُتِب عليها “حلّيها من كنافة حبيبة” فتبدأ النفسُ الأمَّارَةُ بالتجربة لتذهب وتقف في ذاتِ الصف لتشتري ذاك الصحن البلاستيكيَّ الأبيض الصغير والذي يعلوه قطعة مُغرَّقةٌ بالقَطر وفتات المكسرات لتبدأ حالة الهَيمان، وما زلنا في نفس المكان يا وسط البلد في عمّان.
ويا لجمال تلك الأرصفة، ويا لجمال الكتب المعروضة عليها؛ كتب قد لا تخطر على البال ولا الحسبان لجميع الكتَّاب والفلاسفة والأدباء والشعراء وكتب السيَّر الذاتية والمدنية والعلمانية والطوائف الدينية وكتب الطبخ، وكتب كيف تخرج من مأزقٍ أياً كان، وما زلنا في نفس المكان يا وسط البلد في عمَّان.
دور السينما والمقاهي القديمة وأصوات الطرب القديم الخارجة منها وجدرانها المليئة بصور أم كلثوم والعندليب ودرويش وسميرة توفيق التي غنَّت: أردن الكوفية الحمرا، ووديع الصافي الذي غنّى: أُردن يا ديرتي ديرة كرم ورجال، وفيروز التي غنّت: عمّان في القلب أنتي الجمر والجاه ببالي عودي مرّي مثلما الآه، والتي غنَّت كذلك “في أمل، إيه في أمل” مما دفع عمر العبدللات ليغني وينادي على سعد الذي غنّى: يسعد صباح بلادي أهل الجبل والوادي، الذين وصل لهم صدى غناء قصيدة حيدر محمود عندما قال: على ذرى أردننا الخصيب الأخضر العابق بالطيوبِ، والساحر الشروق والغروبِ سمعتها تقول يا حبيبي، هذه عمان التي أرخت جدائلها فوق الكتفين فاهتز المجد وقبلها بين العينين والتي اختالت بجمالها وازدادت تَيهاً بدلالها، وغيرها الكثير والكثير فيصير بي مع وسط البلد في عمَّان كما صار مع إلهام المدفعي عندما غنّى لحبيبته مالي شُغل بالسوق مريت أشوفك، وما زِلنا في نفس المكان يا وسط البلد في عمَّان.
التحف الأثرية القديمة أو الأنتيكا في روايات أخرى، وألعاب الأطفال البلاستيكية الصغيرة، أواني المطبخ وأدوات المنزل، والخضار والفاكهة واللحوم والأسماك والحلويات، وغرف الصرّاف الآلي، وسوق البخاري وسوق الجُملة وسوقٌ لبيع الطيور والحمام وسوق الحراميَّة كما يسمُّونَه وذا الأسعار البسيطة والتي تكون في متناول أي إنسان، وسوق السُكر للعصائر والألبان وسوق عصفور للمطرزات والأثواب التقليدية والحديثة وسوق الندى وسوق الحُجّاج لكل ما يلزم من يذهب لأداء مناسك الحج أو حتى العمرة، وسوق البلابسة الذي سُميَّ نسبة لعائلة البلبيسي، وسوق الحلال، وسوق الصاغة، وسوق السعادة، وسوق الأنتيكا كما ذكرت بالبداية، وسوق البناء الحديث، وما زِلنا في نفس المكان يا وسط البلد في عمَّان.