عن التحليل الرغائبي

أسامة أبو ارشيد

حرير- ثمَّة نوع من التفكير يحذّر منه علماء النفس يسمّى “التفكير الرغائبي” أو (Wishful Thinking). سبب ذلك أن التفكير الرغائبي يعمل على تكوين معتقدات وقناعات بناء على ما نتمنّاه، وليس استناداً إلى الواقع أو الحقيقة أو الأدلة أو حسابات العقل. ويرى بعض علماء النفس أن التفكير الرغائبي لا يمثل مغالطةً منطقيةً فحسب، ولا حتى حالة من الوهم والهوس فقط، بل يمثل تحيزاً معرفياً، يجعل المصاب به، أو من يتحرّك بوحي منه يقارب الواقع على غير ما هو عليه، على أمل حسم المستقبل كما يرجوه ويتخيّله. إنها حالة من رؤية ما يريد المرء أن يراه بعيداً عن الحقيقة، أو هو صورة من صور خداع الذات، بصرف النظر عن المعطيات والأدلة. ومن ثمَّ، كما يقول بعض علماء النفس، يصبح الفكر عبداً للرغبة، ويطيش العقل والمنطق، وَتُهْمَلُ الحقائق والمعطيات، وَيُكَيَّفُ الواقع ضمن نسقٍ من الأماني والأوهام، فتكون النتائج كارثية. ورغم أن الإنسان بطبيعته صاحب معتقد أو معتقدات شتى، إلا أن الأصل أن لا يتم الخلط بين الاعتقاد والرغبة. أما الواقع، في حالة الغالبية، فهو غير ذلك.

المقدّمة السابقة ضرورية للحديث عن صورة فرعية للتفكير الرغائبي، سنسبغ عليها وصف “التحليل الرغائبي”. تعجب، أحياناً، وأنت تقرأ أو تسمع لبعض الكتاب والمفكرين المعروفين يقدّمون “تحليلات سياسية” لا يمكن وصفها إلا بالرغائبية، إذ إنها لا تستند إلى حقائق، والواقع يخالفها، أو أنها قد تكون مبنيةً على معطياتٍ منتقاة، أو حتى مبالغ فيها ومنبتّة عن سياقاتها. وفي أحيانٍ كثيرة، تكون هذه “التحليلات” منطلقةً من تحيّز إيديولوجي، فتكون انعكاساً لما يرغب أصحابها أن يكون عليه المستقبل، ومن ثمَّ يقيمون حالة من الوهم، يتبعها إحباطٌ عند القواعد الشعبية التي تؤمن بهم وتتبنّى مقولاتهم، عندما يصحون على مستقبل أشدّ مرارة من الواقع الذي يتمنّون زواله.

الأمثلة هنا كثيرة. كم مرّة قرأنا وسمعنا عن قرب انهيار إسرائيل وزوالها، بل هناك من ذهب إلى أبعد من ذلك، وحدّد عاماً لذلك، بناء على ما رآها إشارات قرآنية! أيضاً، كثيرون يتحدّثون راهناً عن حتمية انهيار أميركا قريباً، أو على الأقل إطاحتها من عرش القوة العالمية العظمى الأولى خلال سنوات قليلة. واليوم تقرأ وتتابع، غير مصدّق، بعض الكتاب و”المحللين السياسيين” وهم يتحدّثون عن “هزائم” الولايات المتحدة في أوكرانيا و”انتصارات” روسيا، وإرهاصات إعادة صياغة نظام دولي جديد تكون روسيا أحد أقطابه الثلاثة مع أميركا والصين.

ما سبق تحليلات رغائبية قائمة على أوهام وأمنيات وخداع للذات، ولو أنها نوقشت موضوعياً لكانت النتائج أكثر دقّة وأكثر فائدة لصياغة استراتيجيات مستقبلية لكل طرفٍ، حسب حساباته ومصالحه. فارق بين أن نلاحظ مؤشّرات التصدّع في المشروع الصهيوني وعوامل الضعف المتزايدة في إسرائيل والحديث الحتمي عن انهيارها في القريب العاجل. يقود التحليل المستند إلى معلومات وحقائق إلى تطوير استراتيجية لبناء قدرات الذات، وتعزيز عوامل الضعف والتصدّع ومؤشراتهما عند الخصم، وتهيئة الأرضية لتحقيق الهدف المتوخّى. أما الركون إلى “حتميات” لا منطق لها وتخالف معطيات الواقع فهذا نوعٌ من التحليل الرغائبي المتحيّز.

الأمر ذاته يمكن أن يقال عن التنبؤات الرغائبية عن الولايات المتحدة. صحيحٌ أن ثمَّة مؤشّرات حقيقية على حالة من الوهن الأميركي جرّاء الاستقطاب المجتمعي والسياسي الداخليين، وتآكل هيبة الدولة وتراجع شرعية مؤسّساتها في ظل الترامبية (نسبة إلى الرئيس السابق دونالد ترامب). وصحيحٌ أيضاً أن تعاظم أعباء الولايات المتحدة ومسؤولياتها الدولية بصفتها القوة الأعظم عالمياً، ومساعيها إلى الحفاظ على هذه المكانة يستنزفها، ذلك أنها مضطرّة إلى خوض منافسات وصراعات مع قوى عديدة على جبهات كثيرة، وتحديداً الصين الصاعدة بسرعة وقوة، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً. ولكن هذا لا يعني أن أياً من المعطيات المتوفرة يشير إلى أنها في وارد الانهيار أو التراجع إلى مركز آخر غير الأول عالمياً، في السنوات القليلة المقبلة.

أما الحديث المزعوم عن هزيمة الولايات المتحدة في أوكرانيا أمام الانتصارات الروسية، فهذا أمر يخالف الحقيقة التي يتابعها العالم كله صوتاً وصورة، بل إن روسيا نفسها تبرّر هزائمها بأنها تحارب حلف شمال الأطلسي في أوكرانيا، وليس القوات الأوكرانية وحدها. ويُقال الشيء نفسه عمّن يجزمون اليوم أن السعودية تمرّدت على واشنطن، وأنها شكلت حلفاً جديداً مع موسكو ضدّها، تأسيساً على قرار مجموعة أوبك بلس خفض إنتاج النفط، رغم اعتراض الولايات المتحدة. يسقط أولئك في تحليل رغائبي، ذلك أنهم لا يفرّقون بين رسائل استياء توجهها الرياض إلى واشنطن، وتعبير عن توتر معلن بين ولي العهد محمد بن سلمان وإدارة جو بايدن، وما بين تفكيك عرى تحالف استراتيجي بين الدولتين، لا يمكن للسعودية أن تتحمّل تكاليفه الآن، بل ولا يوجد بديل له، لا عند الصين ولا عند روسيا.

باختصار، قد يوفر التحليل الرغائبي ذخيرة للشعبويين للمناورة بها وكسب مزيد من الأتباع المتعطّشين لتغييرات سريعة وجذرية، ولكنها تبقى قائمةً على تزييف للحقائق وخداع للذات. وبالتالي، هي لا تُغني من الحق شيئاً، ولا تساهم في بناء استراتيجية متماسكة وفعالة للخروج من مستنقعات البؤس والظلم واليأس والتبعية والهزيمة.

مقالات ذات صلة