قاتلنا الاقتصادي لن يكون الدوار الرابع بل مكان آخر

د. عبدالحكيم الحسبان

قبل أيام اقتبس الوزير الاسبق الدكتور جواد العناني عبارة من التقرير الاخير لصندوق النقد الدولي والذي يصف حال الاقتصاد الاردني بأنه أكثر الاقتصاديات ضغطا وتوترا في العالم The most stressed economy . والحال أنه ومهما كانت لغة كاتب التقرير بليغة فانها لن ترقى الى مستوى الاحساس بالاحباط وضنك العيش الذي بات معظم الاردنيين وعلى مختلف شرائحهم يعيشونه.

 

ولان الاردنيين يعانون أزمة معيشية طاحنة تترافق مع قدر غير مسبوق من القلق الوجودي على وطنهم وكيانهم، فهم ما انفكوا يطلقون سهام اتهاماتهم لمن يعتبرونه المسؤول عن أزماتهم الاقتصادية والاجتماعية، وحيث يسود خطاب اجتماعي ليس بريئا البتة، بات يحمل الدولة الاردنية مسؤولية الازمة وبات يرى في فساد المسؤولين السبب الوحيد لازمتهم الاقتصادية. وباتت سهام الغضب توجه للدوار الرابع حيث يقبع رئيس الحكومة الاردنية.

 

قبل ما يقرب من العام اطاح الاردنيون بحكومة هاني الملقي التي حملوها مسؤولية ازماتهم الاقتصادية، وقبلها حملوا حكومة الدكتور عبدالله النسور مسؤولية الازمة، وقبلها مارس الاردنيون خطاب الشيطنة نفسه تجاه دولتهم وتجاه حكومتهم. وبعد عام على تولي الدكتور الرزاز رئاسة الحكومة عادت الاصوات نفسها تعلو لتحمل الحكومة مسؤولية الخراب الاقتصادي وضنك العيش الذي نعيشه.

 

أجزم أن المسؤول الحقيقي عن أزمات الاردن الاقتصادية والاجتماعية هو نفسه من ينتج خطاب الكراهية والتأثيم الذي يسود عند الاردنيين لدولتهم. وأجزم أن من يمسك بكل خيوط الواقع الاقتصادي والمعيشي الاردني هو نفسه من يوجه غضب الاردنيين ليتحول ضد دولتهم وعرشهم وحكوماتهم. وأجزم أن المصنع الحقيقي لازمة الاردنيين ومأساتهم ليس في الدوار الرابع وانما يقبع في مكان آخر ليس ببعيد بكل الاحوال.

 

على يقين ان قاتل الاردنيين الاقتصادي ليس في الدوار الرابع على الإطلاق، بل أجزم أن من يشغل الدوار الرابع لا يقل وطنية عن أكثر القامات وطنية في هذه البلاد. قاتل الاردنيين الاقتصادي هي منظومة تتمظهر على شكل صندوق دولي للنقد، وعلى شكل جار منخرط في صفقة القرن، وعلى شكل كيان غاصب هناك من يسوقه لنا زورا وبهتانا على انه كيان يبحث عن السلام والرفاهية والامن له ولنا.

 

ثمة مفارقة في وصفات صندوق النقد الدولي المقدمة لصناع القرار في الاردن. فالوصفة التقليدية التي يقدمها الصندوق في البرازيل وماليزيا وتايلند لا يقدمها البتة في الحالة الاردنية لان المطلوب في الحالة الاردنية ليس خلق اقتصاد مزدهر بل العكس تماما. المطلوب هو خلق اقتصاد مأزوم وهش وتابع وبما يسهل فرض وصفات سياسية قاتلة في اللحظة المناسبة. ولمعرفة ما يريده صندوق النقد الدولي يكفي التدقيق في إسم مسئول صندوق النقد الدولي المسؤول عن الملف الاردني، وهو اللبناني المرتبط بفريق 14 اذار اللبناني وبجيفري فيلتمان الامريكي .

 

في العام 2016 وابان ما سمي حينها زورا بالربيع العربي ضرب ما يزيد عن ال 14 تفجيرا خط الغاز المصري في سيناء والذي ينقل الغاز المصري الرخيص الى الاردن. ولم يتوقف مسلسل التفجيرات في سيناء التي تعد منطقة حساسة جدا لامن الكيان الصهيوني بحيث لم يسبق وان سمعنا عن خرق امني واحد لحدود الكيان الصهيوني من خلال سيناء، الا بعد أن قام الاردن بتوقيع اتفاق غاز مع الكيان الصهيوني ليعوض الغاز المصري الرخيص الذي كان يخفف كثيرا من اعباء فاتورة الطاقة المرهقة للاقتصاد الاردني. فهل عرفتم من كان وراء تفجير خطوط الغاز؟

 

وقبل حوالي العام وحين استشعر الاشقاء في الكويت خطورة الازمة الاقتصادية في الاردن ليس على الاردن فقط وانما على التوازن الاقليمي ككل، بادر الاشقاء في الكويت بالدعوة الى مؤتمر لدعم الاردن اقتصاديا ولكن الذي جرى هو ان طرفا خليجيا فاعلا ومشاركا حتى النخاع في صفقة القرن قام باجهاض المبادرة الكويتية وقام باستضافة المؤتمر، وقام بتحديد قيمة المعونات للاردن وبما يبقي الازمة الاقتصادية قائمة، وبما يبقى الاردن في أضعف وأوهن حالاته.

 

المفارقة أن الطرف الخليجي المشارك في صفقة القرن والذي الذي قام بتقزيم المبادرة الكويتية بدعم الاردن ليتمخض عنها في نهاية الامر معونات هزيلة حد العدم، هو نفسه من قام بتقديم اكثر من خمسين مليار دولار للجار المصري، وقام قبل اقل من شهر بتقديم ثلاثة مليارات للحكومة العسكرية الانقلابية في السودان، وقام قبل حوالي الشهر بتقديم معونات تصل مليار دولار للحكومة العراقية التي تصدر ما يزيد عن اربعة ملايين برميل من النفط يوميا.

 

الجار الخليجي يقوم بتوزيع الاعطيات في كل الاتجاهات ويبدو معطاء وسخيا مع الجميع، وحينما يتعلق الامر بالاردن وبشعبه وكيانه فان القرار هو الخنق الاقتصادي والمعيشي. وقبل اشهر قليلة زاد منسوب التفاؤل لدى الاردنيون بفتح الحدود العراقية والسورية وبما يمكن ان يساهم في كسر حالة الحصار المفروضة عليهم، ليفاجئوا بقرار امريكي يمنعهم من التجارة مع سوريا ويقيد تجارتهم مع العراق.

 

القاتل الاقتصادي أيها السادة ليس في الدور الرابع على الاطلاق، بل هو في مكان اخر يبدو سعيدا جدا وهو يرى أنه لا يرى ولا يلحظ ولا يشيطن. ويبدو سعيدا وهو يرى سهام الاردنيين توجه الى صدور بعضهم البعض، وهو يرى الاردنيين يشيطنون دولتهم وابناء جلدتهم.

 

يدفع الاردن ما يقارب من ثلث ميزانيته ليحافظ على أمنه وأمن نظام أقليمي وعالمي فيه كل ثروات العالم ويعيش فيه أغنى أغنياء العالم، ويعبث فيه الاسرائيلي والامريكي كل يوم، وبما يفجر الازمات في وجه الاردن كل يوم. ولكن هذا الاردن الذي تشاء الصدف ان يكون صديقا لكل هؤلاء الاغنياء يراد له أن يكون فقيرا ومأزوما ومنهكا.

 

لطالما قلنا أنه لم يكن بالامكان أن نذهب الى وادي عربة في العام 1994 لو لم يكن هناك انهيار للدينار في العام 1989 ولو لم تقم السفن الحربية الامريكية بمحاصرة ميناء العقبة في العام 1990. ولان الليلة يراد لها أن تكون شبيهة بالبارحة فأن المطلوب أن يتم خنق الاردنيين بأزمات اقتصادية واجتماعية بل وسياسية هذه المرة لكي يتم تمرير ما هو أكبر بكثير من وادي عربة هذه المرة.

 

ليس في الدوار الرابع من هو سبب ضيقنا وأزمتنا بل هو في مكان قريب وقريب جدا. وعليه فالحصافة تقضي كما المسؤولية التاريخية- ايها السادة – ان يكون الاعتصام القادم ليس في الدوار الرابع بل ان يكون أمام تلك “السفارة” القبيحة الجاثمة على صدورنا في الرابية

مقالات ذات صلة