تفتيت الجسد الفلسطيني في حرب التجويع

عصام شعبان

حرير- تتصل جريمة شارع الرشيد في قطاع غزّة، حيث استهدف متلقّو المساعدات وقُتلوا عن عمد، بتكريس ذاكرة الألم، بما فيها من مفردات النزوح والتجويع والحصار والدمار. وتتضمّن استراتيجية إسرائيل العسكرية كسر الإرادة، وأن يندم الفلسطينيون على ما جرى منذ 7 أكتوبر، وألا يحاولوا تكراره، وصولاً إلى التسليم بأن صعوبة العيش تحت الحصار أفضل من فقدان كل سبل الحياة. لذا؛ يفرض الاحتلال المعادلة الحالية: من لم يمُت بالقصف سيواجِه نقصاً في الغذاء، وإذا حاول تجاوز الجوع بالبحث عن طحين فسيسقط في كمين يعيدُه إلى دوائر الخطر والخوف، ولن يجد من يداوي جروحه.

الهدف النهائي لهذه الاستراتيجية إعادة تشكيل المشهدين، السياسي والجغرافي، وتمهد لذلك بحرب تشمل البنية النفسية والاجتماعية لسكّان القطاع، إذ لا تريد تحقيق الانهيار للبنية التحتية فحسب، لكن لمجمل الجسد الفلسطيني، أشخاصاً ومجتمعاً وشعباً، ردّاً على عملية 7 أكتوبر، وفي محاولة لتحويل مظاهر القوة والفخر والقدرة (المقاومة) إلى مشهد مغاير يبدو خلاله اليأس والعجز وإهدار الكرامة، بما في ذلك الهرولة للحصول على المساعدات هرباً من شبح الجوع، الذي يكسر الأنفس، ويصيبها بالقلق.

وسياسياً، يريد الاحتلال تمزيق الجسد الفلسطيني، وزيادة مساحة الانقسامات سياسياً واجتماعياً بما يخفّف المواجهة معه، وأن تبتعد فئاتٌ عن أي فعل جماعي، ويبقى الهمّ فردياً، فتنهار معها إمكانات تنظيم المجتمع وإدارته، وتتّسع الفوضى التي يمكن معها إحكام السيطرة وشل الإرادة. وعموماً، يدفع الاحتلال باتجاه انهيار النظام الاجتماعي، وليس انهيار النظام السياسي وإبعاد حكومة حماس في القطاع فقط.

قبل جريمة 29 فبراير/ شباط الماضي، التي خلفت ما يزيد على 118 شهيداً 760 جريحاً ضمن آلاف ينتظرون شاحنات المساعدات، كانت يوميات البحث الشاقّ عن الطعام مستمرّة، لكن الأزمة تفاقمت خلال الشهر الماضي، تزامناً مع مفاوضات التوصل إلى هدنة، وأداة للضغط، انخفض مجمل المساعدات بنسبة 50%. وفي بعض الأيام لم تمر سوى 20 شاحنة، من معبري كرم أبو سالم ورفح، كما انقطع وصول المساعدات إلى الشمال منذ 23 يناير/ كانون الثاني، بحسب وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، مع تكرار استهداف قوافل الإغاثة قبلها.

بلغ عدد النازحين في رفح مليوناً ونصف مليون، يتجمّع آلاف منهم في انتظار المساعدات، وينضم إليهم من يرتحل من الشمال والوسط، ويجتازون المخاطرة بحثاً عن كيس طحين، بديلاً لحبوب الحيوانات وأعلافها التي استخدمت لخبز لا يصلُح طعاماً، لكن هذا “التكيّف” محاولةً للبقاء على قيد الحياة لم يعد ممكناً، تحذّر تقارير مكتوبة ومصوّرة من أن علف الحيوانات كاد ينفذ، ويعاني معظم السكان انعدام الأمن الغذائي بسبب منع وصول المساعدات والبضائع، وكذلك تدمير مصادر إنتاج الغذاء في القطاع، وتعثر إمكانات التنقل بين مناطقه إن توفّرت بعض السلع.

وهناك روتينٌ يوميٌّ وشاقٌّ لتأمين المياه والطعام، وفرصة الاستحمام إن أمكن. يولّد كل ذلك المشهد بتفاصيله من قتل وتجويع، ونقص الخدمات الضرورية، إحساساً بالغضب والمرارة والعجز، ويطرح الأسئلة بين السكان بشأن اليوم السابق على الحرب، وليس اليوم الذي يليه فحسب.

ويريد الاحتلال أن ترتسم صور المعاناة الجسدية والنفسية والاجتماعية، بدلاً من الأمل في التحرّر، وأن تسجن فئاتٍ في دوائر الألم طويلاً، بين تفاصيلها الجوع والبحث عن الدواء والخدمات الطبية، خصوصاً مع انهيار النظام الصحّي، وتقلّص فرص مداواة 71 ألف جريح داخل القطاع وخارجه بحكم الحصار، ذلك كله بجانب إحساس بالفقد لدى أهالي ما يزيد على 30 ألف شهيد مسجلين، غير مَن لم يجر إحصاؤهم تحت أنقاض المنازل وفي مسارات النزوح المتكرّر من منطقة إلى أخرى تحت القصف، واكتشاف ما تبقى من أجسادهم، من دون التعرف على هوياتهم.

يراد في هذا المشهد معاقبة الغزّيين وإظهار صورة الهوان، وإثبات أنهم يواجهون المأساة وحدهم، بلا مساندة تُذكر، حتى في مواجهة الجوع. ومع هذه الصورة، يتبدّد الأمل أو اعتزاز بالصمود والفخر بالمقاومة، ويتبدّل بتكريس الألم، والإحساس باليأس وصولاً إلى الهزيمة على مستويين، اجتماعي ونفسي، قبل المستويين، العسكري والسياسي. أو بمعنى آخر، يهدف الاحتلال إلى إحداث هزيمة نفسية وشعور بالخيبة والحسرة والندم، والتسليم بأن هناك خطأً جرى، وما كان يجب أن يتجرّأ الفلسطينيون في المقاومة. لذا؛ تستعرض إسرائيل قصداً جرائم وحشية، منها تكرار استهداف المستشفيات، وقوافل الإغاثة والتجمّعات التي تنتظر المساعدات، لأنها تريد إيصال رسالةٍ إلى كل المنحازين إلى خيار تقرير المصير، بأنكم عاجزون ومنهزمون، وتوجّه الرسالة نفسها إلى كل من يساندهم، في حربٍ أوسع من أراضي قطاع غزّة، تقودها إسرائيل وحلفاؤها وتستهدف بسط الهيمنة وهزيمة ثقافة المقاومة، ضمن مشروع إمبريالي تقليدي.

ولا تنفصل حرب التجويع عن صور الضغط على المقاومة إلى أقصى درجة، ووضعها في اختيارات كلها صعبة، القبول بهدنة مؤقتة أو استمرار أشكال العدوان المختلفة، وبينها التجويع، والذي نفذ بطرق عدّة، منها الهجوم على “أونروا” والتحريض على قطع تمويلها، وتعطيل أعمال الإغاثة والمناصرة، وكذلك نفي وجود هيئات تابعة لحركة حماس تتولّى توزيع المساعدات. ولإبعاد “أونروا” و”حماس” معاً، طرحت خيارات عدة، منها إسقاط المساعدات جوّاً، والذي لا يحلّ المشكلة، بل يكرّسها، عبر القبول بسياسة الأمر الواقع، واشتراطات الاحتلال، فيما يتعلق بكمية المساعدات أو نوعيتها، وتوقيتها. ويشير هذا المشهد إلى أنّ الجميع عملياً يسلّم بالأمر الواقع الذي تفرضه تل أبيب، بما في ذلك منع وصول المساعدات جواً وبحراً وبرّاً من دون اشتراطاتها.

ومع شجب وإدانة ومعارضة لفظية لحرب التجويع، يغيب موقف عملي يضغط في اتجاه وقف الجريمة التي تتصل بأهداف عسكرية وسياسية، منها التهجير، والذي أصبح عملياً خيار مئات الآلاف، بعدما أصبح القطاع طارداً للسكان، يفتقد الحدّ الأدنى لمتطلبات المعيشة، فضلاً عن كونه يمهّد لفرض قوى جديدة في القطاع، على مستويين، سياسي واجتماعي، لملء الفراغ، ويحاول معالجة الأزمة الإنسانية، ويتولى تنظيم شؤون القطاع، وفي ذلك تأتي محاولات تلميع كيانات وشخوص تعود بالحياة إلى ما قبل 7 أكتوبر.

مقالات ذات صلة