دحلان إذ يروّج غزّة “بدون عبّاس أو حماس”

لميس أندوني

حرير- في مقابلة مع صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، بدأ المفصول رسميا من حركة فتح محمّد دحلان بترويج فكرة تشكيل سلطة فلسطينية معدّلة بدون الرئيس محمود عبّاس، ولا تشارك فيها حركة حماس، لإدارة قطاع غزّة بعد الحرب، لتأمين مساعدات عربية لإعادة بناء القطاع الذي يتعرّض لتدمير ممنهج منذ بدء العدوان الإسرائيلي عليه قبل أربعة أشهر. والمثير هنا أن دحلان، الذي لا يزال يقدّم نفسه زعيما لما يسمّى “تيار الإصلاح في حركة فتح”، لم يحاول إبقاء دوره أو موقفه سرّيا، فهو أعلن أنه سيدعم الخطّة، بشرط ربطها بإقامة دولة فلسطينية. الأكثر لفتا للنظر كشفه بصراحة أنه شخصيا يحاول إقناع “حماس” بقبول إدارة للقطاع لا تكون طرفا فيها، فلا سرّية “للخطّة السرّية” ولدوره فيها، خصوصاً أنّ علاقة دحلان مع الحركة تحسّنت منذ عام 2021، بعد أن سمحت سلطة حماس في قطاع غزّة بعقد مؤتمر علني لأنصاره تحت مسمّى “التيار الإصلاحي”، ألقى فيه كلمة عبر الإنترنت، في وقت كانت “حماس” تفرض قيودا صارمة على حركة فتح.

وكانت المصالحة بين الجانبين قد فاجأت كثيرين؛ فحركة حماس اتّهمت دحلان بمحاولة قيادة عملية انقلاب عليها بعد فوزها في الانتخابات التشريعية عام 2006، بدعم وتمويل أميركيين، لكنها تصالحت معه، وقدّمت له تسهيلاتٍ، وسمحت بعودة مساعديه، وأبرزهم رشيد أبو شباك، فيما استمرّت علاقتها متوترة مع “فتح”، ومبرّرها الرئيس الذي قدّمته في 2007 لإبعاد السلطة الفلسطينية عن غزّة كان مؤامرة للانقلاب عليها بقيادة دحلان، ثم تغيّرت الأمور، لأسبابٍ قد لا نعرفها بالتفصيل، لكنها تلقي الشكّ بشأن صدقية تبريرات “حماس” في حينها لتحرّكها ضد حركة فتح والسلطة ذلك العام.

يجب الإقرار هنا بأن عدم تقبّل قيادة “فتح” نتائج تلك الانتخابات، ورفص الغرب لها، وفرض إسرائيل الحصار على قطاع غزّة، عوامل أجّجت الصراع بين حركتي حماس وفتح، وأدّت إلى تعميق الانقسام الفلسطيني. لكن “حماس”، بعد أن انفردت بالسلطة في قطاع غزّة، وقعت في فخّ تمسّكها بالسلطة وتعاملت مع غزّة كأنها “كيان سياسي منفصل” عن الكينونة الفلسطينية. وعليه، فإن عودة علاقتها مع دحلان تقوي وضعها ضد السلطة في رام الله، لما له من نفوذٍ قوي في غزّة، ليس فقط لامتلاكه أموالاً كثيرة، وتأمينه مساعداتٍ لأنصاره والمحتاجين، بل أيضا نتيجة ضعف قيادة حركة فتح وهزالة مواقفها.

المهم هنا أن الخطّة التي يقول دحلان إن دولا عربية ناقشتها في السر هي بمثابة انقلاب علني على “حماس”، وإن “بالإقناع” وفقا لوصفه، وانقلاب على عبّاس، الذي يُخطَّط له أن يبقى في “موقع رمزي” لا أكثر، بعد إجراء تغييراتٍ في السلطة “تؤهلها” لإدارة غزّة. ويبدو أن المطلوب الإعلان عنها لتكون بالون اختبار، وقد يكون بغرض جذب مسؤولين في السلطة الفلسطينية للانخراط فيها، وفي الوقت نفسه الضغط على “حماس” لقبولها. الأهم أن هذه الخطة تتساوق مع سيناريوهات أميركية، جرى تمريرها أو حتى الإعلان عنها منذ بدء الحرب، فتشكيل إدارة بدون “حماس” وبعد إجراء تعديلات عليها أمر تحدّث عنه كل من الرئيس الأميركي جو بايدن ووزير خارجيته أنتتوني بلينكن في أكثر من تصريح. بل كانت واشنطن واضحة في محادثاتها مع السلطة حيال ضرورة إجراء إعادة هيكلة غير معلنةٍ في سياستها. أي أنه لا توجد خطة عربية، وإنما رؤية أميركية تحاول دول عربية أن تجعلها أكثر قبولاً حتى تجاهر بتأييدها. كما أنها خطّة أميركية وليست إسرائيلية؛ إذ لا تريد إسرائيل السلطة الفلسطينية حتى لو أعيد تشكيلها، وهي تبحث عن بدائل، مثل تجنيد أفراد من عشائر البدو، فهي لا تثق بأي سلطةٍ فلسطينية. لكن، رغم التباين في الرؤيتين الأميركية والإسرائيلية، الغرض هو “استئصال” حركة حماس والقضاء على بذور أي حركة مقاومة مستقبلية تعطّل الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، فواشنطن تخشى من استمرار الدمار وعمليات القتل بالوتيرة الحالية، التي باتت تؤثر سلباً على بايدن الذي يتهيأ لخوض الانتخابات الرئاسية، ولأن تعنت رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو قد يمنع التعاون العربي مع سيناريوهات اليوم التالي للحرب، ويعرقل عقد اتفاقيات تطبيع إسرائيلي مع السعودية.

المثير للاستهجان والإدانة أن تأتي هذه التصريحات التي تروّج لخطة أميركية، والأخطر أن دولاً عربية قد تقبلها، فيما تحمل في طياتها ابتزازا للشعب الفلسطيني في غزّة، الذي يتعرّض لحرب إبادة تستخدم فيها إسرائيل أسلحة فتاكة والتجويع والحرمان من العناية الطبية والأدوية، وينتظر موتا مباشرا أو غير مباشر، إذ هذا هو جوهر قباحة الخطّة التي تحدّث عنها دحلان.

في مقابلاته السابقة منذ بدء الحرب على غزّة، دافع دحلان عن المقاومة، وفي مقابلته مع “نيويورك تايمز” أخيراً، لم يُدِن حركة حماس، ولكنه قال إنه لا يمكن لقيادة أن تعتمد على تضحيات الشعب وآلامه لتبقى. والمشكلة هنا ليست في نقد “حماس”، وإنما أنه وفق ترويح خطة تستهدف اجتثاث المقاومة فيصبح المعنى مختلفا تماما. وقد لا يكون قول دحلان في المقابلة “فليذهب الإسرائيليون إلى الجحيم” تمثيلا، لكن الخضوع لمخطّط أميركي وتسويقه يؤدّي إلى قبول الهدف الإسرائيلي – الأميركي.

وحقيقةً، لا يمكن تجاهل دحلان كليا، فواقعاً، وليس سرّاً، أن شخصياتٍ كثيرة، ومنها من حركة فتح الرافضين عبّاس، تقيم اتصالات مع دحلان، وكانت حركة حماس أقرب إليه من “فتح” قبل الحرب وربما خلالها. ومردّ ذلك كله غياب قيادة قوية للشعب الفلسطيني، وتصارع داخلي على السلطة أو على قيادة الشعب الفلسطيني بدون رؤية تحرّرية. لذا أصبح كل الفرقاء الفلسطينيين ضعفاء، ينشغلون بتفاهماتٍ هنا وهناك لتثبيت وضع لهم أو فرضه داخل الساحة الفلسطينية، لكن هذا بات لا يُحتمل في ظل حرب الإبادة، خصوصا أن الوضع الداخلي المهلهل يسمح بتمرير أي مخطّط أميركي.

ولا يروّج دحلان نفسه رئيساً للسلطة المعدّلة، فهو يتحدّث عن قائد “مستقل”، أي من خارج التنظيمات الفلسطينية، وهو بذلك يكمل دور صانع الملوك الذي رسمه لنفسه. وطموحات الرجل ليست مهمة، لكن تدهور الوضع الداخلي الفلسطيني إلى درجة تشلّ قدرة الفلسطينيين على إفشال المخطّط الأميركي للقضاء على “حماس” والمقاومة، وفرض قيادة أكثر خنوعا من السلطة الفلسطينية هو الأخطر، فطالما أنه لا تبرز رؤية فلسطينية “موحّدة”، ستبقى الساحة الفلسطينية مفتوحة لتغلغل الرؤية الأميركية. والتشديد هنا على التركيز على “موحّدة” بجدّية، بمعنى إعادة بناء منظمة التحرير لتشمل الجميع بلا استثناء.

مقالات ذات صلة