خلفية سينمائية لصراع أميركا والصين

سامر خير أحمد

حرير- تترافق، في فيلم “أوبنهايمر” الذي يجري عرضه في دور السينما حالياً، جهود العالم الأميركي، الذي يحمل الفيلم اسمه، لتصنيع القنبلة الذرية التي ألقتها بلاده لاحقاً على مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين عام 1945، ثم امتناعه عن المشاركة في تطوير القنابل غير التقليدية بعد الحرب العالمية الثانية، تترافق مع تفكير إنساني بالمبادئ النبيلة التي قوامها الدفاع عن الخير في مواجهة الشر، لا بشؤون الحرب وفكرة النصر والهزيمة وحسب.

الأمر أشبه بأفلام هوليوود التي تنبري فيها القوات المسلحة الأميركية للدفاع عن كوكب الأرض في مواجهة غزو فضائي، أو للتصدّي لحركات إرهابية تهدّد سلام البشرية، أو لحماية أميركا وأصدقائها من همجيّة شعوب وزعماء يعادون الحرية والحياة، إلى غير ذلك من التصوّرات السينمائية التي تتمحور، هي الأخرى، حول فكرة الدفاع عن الخير (تمثله أميركا وقيمها بالضرورة) في مواجهة آخرين يتمثل بهم الشر كله.

تلك ببساطة الخلفية السينمائية التي تستند إليها الولايات المتحدة اليوم في تبرير خصومتها مع الصين: لا تقول واشنطن إنها تستهدف بكين لأنها تهدّد مكانتها ومصالحها في العالم، ولا نفوذها وما نسجته من نظام عالمي سياسي ومالي منذ نهاية الحرب الباردة. لا! بل تقول إنها تبغي الدفاع عن مصالح العالم والبشرية في مواجهة التهديدات التي تمثلها الصين، التي هي دولة أنانية ومارقة وغير مسؤولة ومتهورة، أما الولايات المتحدة نفسها فخالية من المصالح، ولا تطلب لذاتها شيئاً.

لا تقول واشنطن، في كل تصريحات مسؤوليها، إن بكين تريد أن تناطحها في السياسة الدولية، وتستهدف إزاحتها عن زعامة العالم، وإنها (واشنطن) لذلك تنتفض في مواجهتها بحصار عسكري وضغوط سياسية وإجراءات اقتصادية وتجارية، من أجل الحفاظ على الوضع العالمي القائم الذي مفاده زعامة الولايات المتحدة النظام الدولي، وسيطرتها على المؤسّسات الدولية. لا! بل تقول إنها تريد الدفاع عن قيم الحرية والديمقراطية في مواجهة الديكتاتورية وقمع الحرية وحكم الشخص الواحد. أمّا مسألة سيطرتها على النظام العالمي، وإفادتها من المؤسّسات الدولية، فليست في الحسبان.

حلفاء الولايات المتحدة الذين يندغمون معها في تحالفاتٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ وعسكرية يذهبون هم أيضاً المذهب نفسه؛ فكوريا الجنوبية تبرّر استعدادها لمواجهة كوريا الشمالية بالتبرير نفسه: الحرّية في مواجهة التسلط والديكتاتورية، ولا مصالح غير ذلك أبداً. كذلك تقول اليابان، وأستراليا، وبالطبع بريطانيا وكندا. ويبدو أن الولايات المتحدة لا يمكنها خوض حروبها ونزاعاتها وخصوماتها الدولية، من غير الركون إلى مثل هذه الخلفية السينمائية لحشد الرأي العام المحلي، ثم الموقف الدولي، إذ هو ما جرت عليه عادة واشنطن خلال الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي، ثم مواجهاتها في الشرق الأوسط ضد العراق وإيران، وفي شرق آسيا ضد كوريا الشمالية، كذلك ضد التنظيمات المتشدّدة بداية من “القاعدة” في أفغانستان، وها هي اليوم تستعيده ضد الصين، رغم تقلب الظروف وتغير القيادات السياسية الأميركية.

ورغم أن استعمال تلك الخلفية السينمائية يقع في جوهر الخطاب الأميركي ضد الصين، إلا أنه يمكن القول إنها ما تزال أقلّ استدعاءً في هذه الفترة مقارنة بمنازلات الولايات المتحدة السابقة مع “قوى الشر” الأخرى. والسبب أن حالة التدهور والاحتقان بين واشنطن وبكين لم تبلغ مداها بعد، وأن الولايات المتحدة ما تزال تطمح بإقناع الصين بالعودة إلى التفاهمات القديمة بين الدولتين الكبيرتين التي ضمنت لهما تحقيق أهدافٍ واسعةٍ في العالم عقب تفكّك الاتحاد السوفييتي: اقتصادية للصين وسياسية للولايات المتحدة، ما يعني أن واشنطن حريصة على عدم حرق كل السفن حاليا، لأنها قد تضطر إلى إعادة التعامل مع الصين باعتبارها “دولة صديقة”.

في هذه الحالة، تتحوّل تلك الخلفية السينمائية أداة تهديد إعلامي ضد الصين، لا أداة وصف و”شيطنة” كما يجري خلال الحروب والمواجهات، وهو ما يفسّر لماذا ظلت واشنطن تستعمل أوصافاً لا تنتمي لمنطقة “الخير” ضد بكين، حتى عبر عقود الصداقة والتعاون بينهما التي تلت إطلاق الصين سياسة الإصلاح والانفتاح منذ 1978، وأشهرها مهاجمة الزعيم الأسبق دينغ شياو بنغ خلال أحداث ميدان تيان آن مين عام 1989، والتركيز، مع بداية القرن الجديد، على الديمقراطية في هونغ كونغ، ثم الحديث عن تسلط الحزب الواحد وديكتاتورية الفرد، وكلها شؤون يفترض أن تتعارض مع حرص الولايات المتحدة على جذب الصين إليها، وتوظيفها في نظامها الدولي أحاديّ القطبية، لكن الولايات المتحدة لا يمكنها الاستعاضة عن تلك الخلفية السينمائية ببديل مناسب ومقنع أمام رأيها العام الداخلي، والرأي العام لدى حلفائها، ما يجعلها تراوح في استعمالها بين التهديد خلال فترات الصدام، والابتزاز خلال فترات التفاهم.

على أي حال، المدى الذي تلجأ فيه الولايات المتحدة لاستعمال تلك الخلفية السينمائية التي قوامها مواجهة الخير ضد الشر، في خطابها عن الصين هذه الأيام، يمثل مؤشّراً موثوقاً لمدى تدهور أو إمكانية تحسّن العلاقات بين الدولتين، إذ كلما زاد استدعاء الخطاب الذي يذكّر بأن الولايات المتحدة تدافع عن قيم الديمقراطية والحرية في مواجهة نموذج حكم الفرد الصيني، أمكن استنتاج أن ثمّة تعثراً لفرص التفاهم بين البلدين، والعكس بالعكس.

مقالات ذات صلة