حكم النساء بعد وفاة الملكة

حسان الأسود

حرير- مصادفة جاءت وفاة ملكة بريطانيا بعد يومين من استقبالها رئيسة الوزراء الجديدة ليز تراس، ومصادفة أن يُعقد في مدينة هانوفر بعد يومين من وفاتها مؤتمر حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (CDU) لمناقشة مسألة إقرار الكوتا النسائية (Frauenquote) في الحزب. لكن لم تكن مصادفةً أن تتولى سيدات كثيرات أعلى المناصب الحكوميّة في أوروبا عامة، والغربية تحديداً خلال السنوات الماضية، فمنذ عصر المرأة الحديدية، مارغريت تاتشر، إلى عصر المرأة الإنسانيّة أنجيلا ميركل، وصلت نساءٌ عديدات إلى مناصب القيادة العليا، ومنهنّ رئيسة وزراء فرنسا الحالية، إليزابيث بورن، ورئيسة وزراء فنلندا الحالية، سانا مارين، ورئيسة كرواتيا السابقة كوليندا كيتاروفيتش، وغيرهنّ كثيراتٌ ممن لا يتّسع المجال لتعدادهنّ الآن.

ما يجعل موضوعة تمثيل النساء في مؤسسات الحكم جديرة بالاهتمام كثير النقاش الدائر في العالم منذ عقود، وخصوصاً منذ المؤتمر العالمي الرابع المعنيّ بالمرأة، في بكين عام 1990، حيث ازدادت بشكل واضح أعداد الحركات النسوية العاملة على تنفيذ مُخرجات هذا المؤتمر وتطبيقها في الواقع. ففي نهاية اجتماعات الدورة الـ64 للجنة وضع المرأة التابعة للأمم المتحدة المنعقدة عام 2020، صدر إعلانٌ سياسي عن الدول المشاركة تعهّدت بموجبه بتعزيز الجهود من أجل التنفيذ الكامل لإعلان (ومنهاج) عمل بكين المذكور، الذي يُعَدُّ الخطة العالمية الأكثر شمولية للمساواة بين الجنسين وتمكين المرأة. لكنّ التقارير تشير إلى بطء التقدّم في هذا المجال، فنسبة الوزيرات في العالم لم تتخطّ 20.7%، ونسبة البرلمانيات وصلت إلى 24.3% فقط، بينما لم تتجاوز نسبة النساء في المناصب القيادية العليا من رؤساء الدول نسبة 6.6% ونسبة 5.2% من رؤساء الحكومات.

العقبات الكأداء الجاثمة في طريق تحقيق عدالة أرسخ للنساء كبيرة جداً. وفي المقابل، يجب النظر إلى التحولات الهائلة في منطق التفكير البشري خلال القرن الماضي، ويجب أيضاً إدراك حجم التأثير الهائل للثورة الصناعية ومن بعدها ثورة التقانة والاتصالات بذلك المسار، وأخيراً أثرَ اكتساح العوالم الافتراضية من خلال وسائل التواصل الاجتماعي بنية الأسرة وتكوين المرأة وتغيّر الأدوار الاجتماعية للنساء والرجال على السواء. فعلى سبيل المثال، يمكن مقارنة أثر اختراع الغسالة الأتوماتيكية والجلاية في حياة النساء، بأثر اختراع الجرار والحصّادة في حياة الرجال. ويمكن أيضاً مناقشة وسائل الصحّة العامة والنظافة في التحوّل الكبير في أدوار النساء المجتمعيّة. فعلى سبيل المثال، بات بإمكان النساء العمل في أكثر الأماكن صعوبة، بسبب وسائل الرعاية الصحية النسائية التي لم تكن متوفرة. لكنّ ذلك لم يمنع من استمرار معاناة النساء في مجالات العمل المختلفة. ففي أغلب الدول، وحتى الأكثر تطوراً منها، لا تزال النساء يحصلنَ على أجرٍ أقلّ من الرجال رغم تساوي الكفاءات، ناهيكم عن التحرّش الذي لم تسلم منه ممثلات هوليوود وسيداتُ أعمال شهيرات، بل حتى برلمانيات ووزيرات وأميراتٍ من بعضِ الأسر الملكية.

قد يناقش بعضُهم أنّ رأس المال هو الذي يتحكّم بسوق العمل، وبالتالي، يفضّلُ أربابُ العمل وربّاتُه أيضاً توظيف الرجال لأسباب اقتصادية صرف، فالرجال غير مضطرّين إلى أخذ إجازات، لأسباب تتعلق بالنساء حصراً كما في حالات الحمل والولادة مثلاً، وهذا ينعكس، بطبيعة الحال، على تراكم الخبرات والتقدّم المهني لدى الرجال إيجابياً ولدى النساء سلبياً. وفي المقابل، هناك تشريعات كثيرة بدأت تأخذ طريقها للتخفيف من هذه الفجوة بين الجنسين في الفرص. ويجادل مدافعون عن حقوق الرجال مقابل التطرّف لدى بعض الحركات النسويّة، بأنّ المساواة لا يمكن أن تكون مطلقة أبداً، والأفضل الحديث عن العدل في هذا الشأن. يضرب هؤلاء أمثلة عن نِسَبِ النساء العاملات في مجالاتٍ آمنة، مثل المشافي والمراكز الطبية والمدارس ورياض الأطفال، مقابل نسب الرجال العاملين في مجالات خطرة مثل الإطفاء وأعمال البناء والإنشاءات والنقل البري والبحري. وتردّ النسويات بأنّ مجالات العمل الأكثر دخلاً مثل أعمال البحث والتطوير والاتصالات مفتوحة أمام الرجال أكثر من النساء، وأنّ الأمر متعلّق بهذه الناحية، لا بالخطورة والأمان.

وفي هذا السياق، تثور على الدوام قضايا المشاركة السياسية للنساء، وأنّ التمكين يقتصر على الرجال أو يتعمّد إهمال النساء، وهذا ملحوظ في جميع الدول. ونعاني في العالم العربي من هذه القضيّة أكثر من غيرنا، فالنساء في أغلب بلدان الربيع العربي، على سبيل المثال، تحمّلن تبعات الثورات، أو بالأحرى قمع الثورات، وأوزاراً كثيرة تنوء بحملها الجبال. لكنّ ذلك لا يعني بالضرورة أنّ الفرص لم تُتح أمامهنّ للتطوّر والمشاركة، فبعضهم يُحاجج بأنّ نساءً كثيرات فشلن في تشكيل جبهة عريضة واسعة قادرة على مزاحمة الرجال، رغم التسهيلات الكبيرة المقدّمة لهنّ من مؤسسات المجتمع الدولي. هناك من يقول أيضاً: لمَ لا تنشئ السيدات منصاتهنّ الخاصة، ولماذا لا يعقدن المؤتمرات وورش العمل ويدعون لها من يشأن من النساء والرجال؟ أو بعبارة أخرى، لماذا يقفن فقط لانتقاد الرجال من دون أن ينافسنهم؟

لا تخلو مقاربة إشكالية دور النساء في الحياة العامّة من خطورة الانزلاق في التسطيح إذا ما اقتصرت على مقارنات بسيطة أو تناول جزئيات من هنا وهناك، فالقضيّة معقّدة وشائكة بقدر امتداد التاريخ البشري الذي نعرفه، ويكفي أن يقرأ المرء بعض محطّات التاريخ ليجد أنّ النساء لم يتمتّعن بوضع أفضل من الرجال، حتى عندما حكمت نفرتيتي إلى جانب زوجها أخناتون، أو عندما حكمت كليوباترا بالتشارك مع أخيها بطليموس الثالث عشر، ولا عندما حكمت زنوبيا، أو حتى تاتشر وميركل. للموضوع جذورٌ ضاربة في بنية المجتمعات البشرية المختلفة، ولا يقتصر بكل تأكيدٍ على ثقافة دون غيرها، فالنساء في اليونان القديمة كنّ كالعبيد، والأطفال ملكٌ للرجال، رغم ما وصلت إليه الحضارة اليونانية آنذاك من تطوّر أنتج فلسفة باقية. والنساءُ في أفغانستان ما زلن حقل تجارب لعقليّة ذكوريّة تحتكر تفسير الدين الإسلامي بما يتوافق وهوى المنتصرين من أمراء الحروب، وكأنّ الأمّة مكتوبٌ عليها دوماً اختراعُ العجلة! وفي النهاية، ما زال من الصعب القول إنّ حكم النساء أو مشاركتهن في الشأن العام وفي السياسة سيتغير بعد وفاة الملكة إليزابيث، فالأخيرة في أثناء حياتها لم تكن تحكم.

مقالات ذات صلة