في اليوم العالمي للتضامن… كرامة الشعوب تأنف بالشفقة

سوسن جميل حسن

حرير- عندما نطّلع على جدول الأمم المتحدة بالنسبة إلى الأيام الدولية التي حمّلتها أهدافًا وعناوين عريضة تهتم بقضايا مشتركة ومهمة بالنسبة إلى الإنسانية، فإننا نتوقّع أن في المستقبل وعودًا مُبشّرة بعالم وردي للبشرية كلها، لكن الواقع يقدّم كل يوم دلائل وبراهين على أن العالم نادرًا ما كان في حالة هدوء وسلام، فتاريخ البشرية حافلٌ بالحروب، بل إن فترات السلام في هذا التاريخ لا تشكّل قيمة تُذكر قياسًا بآلاف السنين من الحروب.

ومن المفاهيم والقيم الإنسانية التي رصدت لها منظمة الأمم المتحدة يومًا عالميًّا للتضامن، باعتباره أحد القيم الأساسية والعالمية التي ينبغي أن تقوم عليها العلاقات بين الشعوب في القرن الحادي والعشرين. وتقرّر، في هذا الصدد، أن تعلن 20 كانون الأول/ ديسمبر من كل عام يوما دوليًا للتضامن الإنساني، هدفه العريض القضاء على الفقر باعتبار ذلك حتمية أخلاقية واجتماعية وسياسية واقتصادية للبشرية. بل وأنشأت، تحقيقًا لهذا الهدف، صندوق التضامن العالمي بوصفه صندوقًا استئمانيًا تابعًا لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، يستهدف بشكل أساسي القطاعات الأكثر فقرًا في العالم، لكونهم يعانون في ظل سيطرة العولمة، ويستحقّون المساعدة، وتعلن المنظمة أنها تستند إلى روح التضامن هذه في “تحقيق التعاون الدولي لحل المشكلات الدولية ذات الطابع الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي أو الإنساني”، واصفة التضامن بأنه الأساس الذي ينبغي أن تقوم عليها العلاقات بين الشعوب.

تعد الأمم المتحدة منظمّة دولية لكنها غير ملزمة، خصوصا في زمن الحروب، ولقد شاهدنا وسمعنا وقرأنا آراء الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس ونداءاته، بشأن الحرب الإسرائيلية على غزّة، واستخدامه المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة، الموقعة عام 1945 في سان فرانسيسكو، التي تنصّ على أنه يجوز للأمين العام للأمم المتحدة “أن يلفت انتباه مجلس الأمن إلى أي مسألة يرى أنها يمكن أن تعرّض السلم والأمن الدوليين للخطر”. وتتيح المادة للأمين العام مجالاً للعمل على المستوى السياسي للقيام بالدبلوماسية الوقائية. لكن ما النتيجة التي انعكست آثارها على واقع الشعب الفلسطيني في غزّة؟

يدحض الواقع كل التصريحات التي يطلقها زعيم من هنا وآخر من هناك، رئيس من هنا وغيره من مكان آخر، ففي الواقع أن الحرب الإسرائيلية تزداد شراسة وعنجهية، على الرغم من كل التصدّعات الموجودة في الحكومة والأزمات التي تزداد في المجتمع، فإسرائيل التي تعلن أن أهداف الحرب هي تحرير المخطوفين والقضاء على حركة حماس، لديها هدف مضمر أساسي، تاريخها يؤكّد هذا، وحربها على غزّة تعزّز هذا التأكيد، فهي تضغط على سكان غزّة من أجل تهجيرهم من أرضهم، وهي تقوم بحربها على المدنيين، بما يمكن وصفه التطهير، مع مباركة القوى العظمى، خصوصا أميركا وأوروبا وحلفاءهما، وليست التصريحات الخجولة، أو المواربة التي يطلقها بعضهم من هذه القوى، إلّا تبييض صفحاتهم، أو مداراة لازدواجيتهم أمام شعوبهم، فالشعوب كان لديها رأي آخر بالنسبة إلى الحرب على غزّة، وبالنسبة إلى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي لم يكن مبنيًّا بالنسبة لغالبية شعوب تلك الدول إلّا على السردية الإسرائيلية من قبل، حتى لو كان جانبٌ مهم من المظاهرات الشعبية رفضًا للحرب في غزّة قائمًا على الثقافة التي تجذّرت في وجدانهم بشأن الحقوق الإنسانية وقيم العدل والمساواة، لكنها، في النهاية، قيم إيجابية تجعل الشعوب المنتهكة حقوقها في دائرة الضوء، وتطالب أصحاب القرار بأن يكون لهم موقف إنساني يناصر ويعزّز هذه القيم ويحميها.

أمام هذا الواقع ما الذي تغير؟ هل يكفي أن يبقى العالم ناشطًا في ساحة الإعلام والتصريحات، بينما شعب يًباد؟ لا بل إن العالم الغربي مصرّ على دعمه إسرائيل، وجديد تأكيد هذا الدعم على لسان وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، في زيارته إسرائيل التي ترى في أي دعوة إلى “ضبط نفسها”، وليس إلى إيقاف الحرب، عداءً لها، كما قال سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة جلعاد إردان، عبر منصة إكس، إن غوتيريش “بلغ مستوى جديدا من التدني الأخلاقي” لاستخدامه المادة 99، وأضاف أن الأمين العام قرّر “تفعيل هذه المادة بشكل نادر فقط عندما يسمح له بالضغط على إسرائيل”، وعدّ خطوة غوتيريس “دليلًا إضافيًا على الانحراف الأخلاقي للأمين العام وانحيازه ضد إسرائيل”، ودعاه إلى تقديم استقالته.

إذا ما بقي العالم القوي، والغرب تحديدًا، يمارس هذا الاستعلاء على شعوب العالم الفقيرة، لن يكون هناك جدوى من التضامن، التضامن يقتضي التكافؤ، يقتضي أن تكون الأطراف تجتمع على هدفٍ واحد، أو مجموعة أهداف، أن تكون الأخطار التي تهدّدها واحدة، وإلّا على ماذا تتضامن؟ لا تختلف هذه الطروحات كثيرًا عن مبدأ “الشفقة”، وهذا ما تأنفه الشعوب لأنها لديها جميعها كرامة إنسانية، ولديها أهم ما يميّز الفرد الإنساني: العمل، وهي قادرة على العمل وإنتاج حياتها، بل حتى الشفقة بالنسبة إلى قادة النظام العالمي ليست واردة، وإن قدّموا بعض المساعدات للدول الغارقة شعوبها في المشكلات الحياتية والانهيارات والحروب، فهذا من أجل ضمان مصالحها، ضمان وجود أسواق لمنتجاتها، والسيطرة على الموارد التي تحتاجها الصناعة البشرية في الوقت الحالي.

تزداد الفجوة اتساعًا بين شعوب العالم، العالم القوي والعالم الضعيف، وهذه الطرائق التي يتعاطى بها قادة العالم المسيطر لا تقدّم أساسًا يبنى عليه من أجل بشرية أكثر استقرارًا وأمنًا وسلامًا، وما تشهره الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية ليس أكثر من شعارات برّاقة من الصعب تطبيقها على أرض الواقع، ما دامت هناك قوى عظمى مسيطرة وتصادر القرارات الشرعية أو تشلّها، ولقد رأينا هشاشة التضامن قبل اليوم في أزمة كورونا، فكيف يمكن الوثوق بقرارات الأمم المتحدة، بل كيف يمكن الاعتماد عليها في نصرة الشعوب، ومنها الشعب الفلسطيني الذي يُباد في غزّة، وفي الضفة الغربية أيضًا، أليس أساس التضامن، كما تشهره المنظمة الدولية، الاعتراف أولًا بحقّ كل شعب في الحياة وتقرير مصيره؟ وإلّا على ماذا تبنى هذه الفكرة؟

كيف يمكن الوثوق في هذه القرارات، وواقع الدول العربية يقدّم البراهين على ما وصلت إليه شعوبها خلال العقود الماضية، والفقر والأزمات التي تعيشها، وفقدانها ما بقي لديها من مقوّمات الدول القادرة على البقاء؟ التضامن مفعّل بين أعضاء الكتل أو الأحلاف المتصارعة في العالم فحسب، تضامن يدعمها في سياساتها وحروبها من أجل السيطرة، بينما العالم الباقي ليس أكثر من وقود، وكل الأيام العالمية التي تسعى إلى إحياء مفاهيم ترمي إلى خير البشرية، لا تستطيع انتشال الشعوب الفقيرة من فقرها، ولا تأمين مقوّمات الحياة في العصر، عصر العولمة، لها، ما لم تتغيّر سياسات قادة العالم القوي وأدواتهم في الهيمنة على البشرية مجتمعة، وتقرّ حقوق الشعوب، وتوقف الحروب والعدوان والاحتلالات.

مقالات ذات صلة