أوروبا و”معاقبة” روسيا: مقاربات تحددها المصالح

بات من الواضح أن العديد من دول الاتحاد الأوروبي، تتجه نحو فرض مزيد من الخطوات “العقابية” بحق روسيا، على خلفية قضية تسميم العميل المزدوج السابق سيرغي سكريبالوابنته في إنكلترا. وعلى الرغم من أن يوم الجمعة الماضي شهد نقاش قادة أوروبيين لأزمات عديدة في بروكسل، ومنها “الحرب التجارية” مع الحليف الأميركي، إلا أن الموقف الأوروبي من روسيا ظل الأولوية، وسط مساومات وأخذ ورد بين دوله حول الخطوات المقبلة تجاه روسيا، بعد تبنّي أغلبية القادة للموقف البريطاني.

وعلى الرغم من جهود دول أوروبية عديدة، وخصوصاً التي تشعر بأنها مستهدفة بسياسات الكرملين، للدفع باتجاه “إرسال رسالة جماعية واضحة لموسكو، بأنه لن يُسمح بزعزعة استقرار القارة”، كما ذكر رئيس الوزراء الدنماركي لارس لوكا راسموسن الجمعة في بروكسل، إلا أن دولاً أخرى ما تزال مترددة.
ففي جانب “القوى السياسية” القريبة من موسكو والكرملين، وشخصيات من أحزاب اليمين المتشدد، وبعض قادة في شرق أوروبا، يبدو أن خطة إحراجهم في الإعلام والسياسة والشارع، قد نجحت للدفع بتأييد مواقف حكوماتهم، في دول الشمال الأوروبي على الأقل، وخصوصاً مع التحشيد الإعلامي المطالب بمعاقبة الكرملين “على الهجوم بالغاز الكيميائي، في دولة غربية”، وفق ما يقول سياسي يساري في كوبنهاغن، مواكب للنقاشات الأوروبية.

وشهدت عدد من الدول الأوروبية الشمالية، بمشاركة ممثلي كتل برلمانية من “أصدقاء موسكو”، اجتماعات طارئة للجان الدفاع والخارجية “لإزالة أي غموض في الموقف، وتسليح قادة الدول بمواقف على طاولة البحث في التدابير العقابية”. لكن على جانب “المصالح”، برزت مواقف مترددة إيطالية وقبرصية ويونانية وبلغارية، وتشكيك مجري وتشيكي، بسبب علاقات حكومات هذه الدول مع روسيا.
مصادر متابعة للجدل الأوروبي في بروكسل، قالت إن الأمور الآن “على مفترق طريق، ليس في مصلحة أحد”. لكن يبدو أن الأوروبيين تلاقوا على فكرة “استدعاء سفير الاتحاد الأوروبي لمدة شهر”، للمرة الأولى، ما يعني أن الرسالة واضحة، بأن “أوروبا سائرة في تدابير معاقبة الكرملين أكثر من الماضي”.

هذا الأمر أكده رئيس المفوضية الأوروبية، جان كلود يونكر، بالتزامن مع حسم رئيس الاتحاد الأوروبي، دونالد توسك، أن خطوات أخرى في الطريق “من قبل عدد من الدول”، وهو ما يشير إلى صعوبة اتخاذ موقف “من الكل الأوروبي”. وأعلن توسك أنه يتوقع “أن تمضي الدول الأعضاء (في الاتحاد) نحو مزيد من التدابير”.

تبرز في النقاشات القائمة، على صعيد وطني في اللجان المختصة بدعم قرارات الحكومات، قضية “إبعاد دبلوماسيين روس من عواصم بعض دول الاتحاد”، كأولوية “تضامنية من جهة، ولإظهار موقف موجّه للكرملين بالتحديد”. ويبدو بالفعل أن دول أوروبا التقليدية القيادية، كفرنسا وألمانيا، ذاهبة نحو “تنسيق قوي”. فالرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، قالها في حضور المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بأنهما يعتبران “هذا الهجوم (تسميم سكربيال) تحدياً خطيراً لأمن وسيادة أوروبا. وعليه يتطلب الأمر رداً منسقاً من الاتحاد الأوروبي ودوله”.
وما رشح من لقاءات بروكسل، يشي بأن القادة الأوروبيين يدركون الأوضاع الداخلية للدول الأعضاء، خصوصاً التي تعاني من نتائج استثمار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في بناء شبكات مصالح وعلاقات مع قوى سياسية محلية فيها، إضافة إلى ولاء أقليات روسية في دول البلطيق.

لكن في المقابل، يبدو أن السويد والدنمارك ذاهبتان نحو تصعيد مختلف، فلم يستبعد قادة البلدين “اتخاذ إجراءات صارمة”. فرئيس الوزراء الدنماركي راسموسن أكد أن بلده ذاهب “نحو تدابير واضحة، ومن الجيد أن يكون هناك موقف داعم لبريطانيا”.
وعما يمكن اتخاذه من مواقف، أكدت مصادر في كوبنهاغن لـ”العربي الجديد”، أن “لدى كوبنهاغن ورقة قوية جداً، في نواحٍ اقتصادية ومصالح مباشرة تمس موسكو في مشروع نوردستريم2 الذي لا يبدو أنها ستمرره في مياهها بالبلطيق”. كما أن بعض دبلوماسيي دول الشمال الأوروبي، لا يستبعدون أن تشهد الأيام المقبلة موجة طرد دبلوماسيين روس من عدد من الدول، ليبدو الأمر منسقاً وبخطوات تصاعدية. وفي خلفية الحديث عن التصعيد يبدو أيضاً أن “مقاطعة كأس العالم في روسيا (دبلوماسياً) من ضمن مروحة الخيارات”.

عملياً، لدى الاتحاد الأوروبي، على الرغم من تحفّظ بعض الدول، وسائل عديدة لمواجهة موسكو. فدبلوماسياً يُعرّف مجلس الاتحاد الأوروبي الموقف بـ”ردود أفعال دبلوماسية على تحدٍ سياسي، أو تطور معارض لمصالح الاتحاد”. ويذهب المجلس للتعريف ببعض تفاصيل هذه الردود ومسبباتها باعتبارها تصدر “إما بسبب الإرهاب، أو برامج نووية، أو انتهاكات لحقوق الإنسان، أو ضم مناطق تابعة لدولة أخرى، أو التصرف بما يهدد استقرار الاتحاد”.
وبالتالي، في المعايير المحددة لمجلس الاتحاد الأوروبي، عن ردود فعله تجاه تلك القضايا، يبدو أن الدول ملزمة باتخاذ مواقف، وإن حصلت أحياناً مساومة على طبيعتها انطلاقاً من الحفاظ على صورة ومتانة الاتحاد الأوروبي. في مسألة استدعاء سفير الاتحاد الأوروبي، يبدو أن الدول الأعضاء اتفقت على الخطوة الدبلوماسية. وهي تعبير “عن تدهور خطير في العلاقة والثقة بين دوله وروسيا”.

في الحالة الراهنة، يبدو قلق موسكو واضحاً من تصاعد الخطوات، إذ إن “استدعاء سفير الاتحاد الأوروبي للتشاور”، يعني من بين أمور كثيرة، أن العلاقة تتجه نحو الحضيض، وإن كانت حتى الآن، لا تبدو “قطع علاقات دبلوماسية”. وما سيحدد العلاقة هو ما ستتخذه الدول الأعضاء في شأن الدبلوماسيين في موسكو وفي دولها.
واستناداً إلى معايير المجلس الأوروبي نفسه، فإن “التدابير الجزائية متأصلة في تشريعات الاتحاد الأوروبي”. وهو معيار تستند إليه بروكسل في معاقبة شركات وأشخاص ومجموعات وقطاعات محددة، أو دول بعينها.

ومن بين الإجراءات التي يقدم عليها الاتحاد الأوروبي في العادة، حظر السلاح، إذ يمنع تصديره، أو أنواع محددة منه، إلى دولة معينة. كما يمكن للاتحاد حظر السفر، وهو إجراء يمنح الاتحاد إمكانية وضع أسماء على لائحة الممنوعين من دخول أراضي دوله. ويمكن أيضاً أن يسري الحظر على أشخاص من دول الاتحاد بمنع سفرهم إلى خارج بلادهم.
كذلك يستطيع الاتحاد تجميد الأصول، وهو إجراء يتّبعه الاتحاد بحظر وصول أشخاص ومؤسسات لحساباتهم المصرفية، ومنعهم من التصرف بممتلكاتهم في دوله، ويحظر أن تسهل الدول وصول هؤلاء إلى السيولة في دوله. إجراء يمكن أن يؤلم الطبقة المحيطة ببوتين، وبالشركات الروسية.

وتحضر العقوبات الاقتصادية كإجراء إضافي أمام الاتحاد، فيمكن له أن يستهدف شركات محددة أو قطاعات بأكملها (مثلاً قطاع استخراج النفط والغاز وتصنيع السلاح، أو أي قطاع صناعي لدولة ما). ويمكن للإجراءات العقابية الأوروبية أن تحظر استيراد وتصدير بعض السلع والاستثمار المتبادل، ووقف كل الخدمات لقطاعات تلك الدول المستهدفة.
ومن الإجراءات المتوفرة أمام الاتحاد الأوروبي، فرض عقوبات دولية، إذ تسمح معايير الاتحاد بالذهاب نحو عقوبات دولية عبر مجلس الأمن الدولي، لكن هذه الخطوة يصعب الإقدام عليها في ظل قدرة موسكو على استخدام حق النقض “الفيتو” ضد أي قرار بحقها.

عقوبات سابقة
منذ أن ضمت موسكو شبه جزيرة القرم في 2014، اتخذ الاتحاد الأوروبي سلسلة من العقوبات بحقها، فقد جُمدت منذ ذلك العام “الاجتماعات الدورية” بين الطرفين، وعملية “تحرير التأشيرات مع روسيا”. وبعيد الضم اتجهت دول “جي 8” (الثمانية الكبار) إلى أصلها “جي 7” لتعقد من دون روسيا. وأوقف الاتحاد الأوروبي مفاوضاته مع روسيا حول انضمامها إلى “منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية” (OECD) ووكالة الطاقة الدولية (IEA). كما أقدم الاتحاد على تجميد حسابات 150 شخصاً و38 منظمة. ومنع استيراد أي سلع من منطقة القرم، بالإضافة إلى منع تصدير أدوات تقنية ووقف مشاريع الاستثمار، مع توقف تام للرحلات السياحية أو المشاركة بفعاليات في شبه الجزيرة.

وفي صيف 2014 قرر الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات اقتصادية على قطاعات محددة، ما تزال سارية، قبل أن يقوم في مارس/آذار 2015 بربط تلك العقوبات بتنفيذ اتفاق مينسك للسلام في أوكرانيا. وأدت تلك العقوبات إلى الحد من نفاذ البنوك والشركات الروسية إلى أسواق رأس المال في أوروبا، ومنع تصدير واستيراد السلاح. ولم تُستثنَ من العقوبات التقنيات الحساسة والدقيقة سوى تلك المرتبطة بتطوير الغاز والنفط.

وعلى الرغم من أن روسيا يمكنها أن ترد، وخصوصاً في مسائل إمداد الغاز نحو أوروبا، إلا أنه من الواضح أن الاتحاد الأوروبي فَقَد الثقة بالكرملين، مع تصاعد النبرة التي تشبّه بوتين بالزعيم النازي أدولف هتلر، كما فعل وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون. ليبدو أن الاتحاد ذاهب نحو خطوات أشد وطأة، “على الأقل في عزل الكرملين”، وفرض ما يسميه بعض المراقبين “مراجعة شاملة للحسابات، بدل العودة إلى حقبة أصعب من الحرب الباردة التي يُدفع إليها الطرفان”.
التعويل على قيام برلين وباريس بدور لتخفيف التوتر، يبدو أنه لم يعد يُجدي نفعاً تجاه موسكو. وبحسب ما يرى خبراء أوروبيون، في وسائل الإعلام المحلية، فإن “الكرة ترمى بقوة في مرمى الكرملين، وليس مستبعداً أن يذهب لتغيير طاقمه ومستشاريه وينزل إلى الواقعية بدل الإمعان في اللعب على الوتر القومي”.

العربي الجديد، ناصر السهلي

مقالات ذات صلة