نقاش العنصرية ضد العرب في تركيا بين الإفراط والتفريط

أسامة أبو ارشيد

حرير- أن يلتزم الإنسان الموضوعية ويحترم المصداقية ويكون عادلاً في أحكامه في كل وقت وحين أمرٌ صعب المنال، عسير التحقّق، لا يتقنه إلا قليلون، فناسٌ كثيرون تغلب عليهم تحيّزاتهم، وتتبدّل أحكامهم ومواقفهم بناء على تلك التحيّزات، فتراهم يبالغون في تبرير أخطاء من يحبّون والتماس الأعذار لهم، ويبالغون في التشنيع عليها عندما تصدُر عمن يعارضون ويناوئون. وفي القرآن الكريم نجد أمراً وحضّاً على التزام الموضوعية والإنصاف والعدل المطلق في مقابل التحيّز وما يعرف بـ”العدالة النسبية” وكذلك الانتقائية، “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا” (النساء: 135).

مناسبة هذه المقدّمة الجدل الذي تكثف في الأسابيع القليلة الماضية في مسألة تصاعد العنصرية في تركيا، شعبياً ومؤسّساتياً، ضد الأجانب بشكل عام، واللاجئين السوريين والأفغان بشكل خاص، بما في ذلك ضد السياح العرب. في هذا السياق، تجد فريقاً بالغ في إنكار الأمر جملة وتفصيلاً بناء على موقفٍ منحازٍ إلى تركيا، وتحديداً الطرف الحاكم فيها راهناً، في حين أن ثمَّة فريقاً ثانياً بالغ في تهويل القضية، وتحديداً لناحية اتّهام الحكومة التركية بناء على موقف مسبق ضدها. وبين هذين الفريقين فريق ثالث سعى إلى محاولة تبرير ما يجري وتحميله للمعارضة التركية، وحتى أطراف خارجية، وتبرئة الحكومة من المسألة برمتها.

لا يزعم صاحب هذه السطور موضوعية تامَّة ولا تحرّراً مطلقاً من الانحياز المسبق، وإنْ يسعى إليهما، لكن من دون السقوط في وَهْمِ تحقيقهما عبر تبنّي مواقف حادّة في اتجاه أو آخر، فالموضوعية لا تعني أبداً الحيادية، وإنما طلب الحقيقة والانتظام في خندقها. ومعلومٌ أن الموضوعية تختزن قيمة أو قيماً تحكم مسار تعاطينا مع المسائل والحكم عليها، في حين أن الحيادية تركّز أكثر على التوازن في الطرح وتقديم القضايا متخفّفة من القيم. باختصار، تتطلّب الموضوعية البحث في المعطيات، وتقليب الأدلة للوصول إلى الحقيقة، وليس الظهور بمظهر المحايد الذي لا موقف له، وبالتالي المساهمة في تضليل الناس. بناء على ذلك، ليس من المقبول اتهام الشعب التركي بكليته بأنه عنصري معادٍ للأجانب والعرب، في الوقت الذي لا يُعقل فيه إنكار وجود نسبة معتبرة بين الأتراك ممن هم عنصريون ومعادون للأجانب والعرب، وخصوصاً السوريين. أيضاً، تقتضي الموضوعية منَّا أن نقرّ أن ثمَّة تحولاً في خطاب حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان وسياساتها في العامين الأخيرين، وتكثفت أكثر في الأشهر الأخيرة، تجاه اللاجئين السوريين، فضلاً عن بعض المعارضات العربية التي احتضنتها تركيا في مرحلة ما بعد الانقلاب على ثورات الربيع العربي. لكن، من الضروري بمكانٍ هنا أن نؤكد أن الموضوعية تقتضي توضيح السياقات وعدم الشطط.

لا يمكن إنكار أن تركيا بقيادة أردوغان كانت بمثابة الحضن الدافئ، سنوات، لملايين السوريين الفارّين من بطش نظام بشّار الأسد وجوْره، وكذلك الأمر بالنسبة لعربٍ كثيرين ضاقت بهم بلادهم وشرّدتهم أنظمتها في فيافي الأرض. هذه حقيقة، سواء أكان ذلك منطلقاً من مشاعر أخوية أم حسابات سياسية، أم كليهما معاً. لكن إجهاض الثورات العربية، وتواطؤ الفرقاء على خنق رياح التغيير في المنطقة، تركا تركيا وكذلك قطر، شبه وحيدتين في مواجهة حلف واسع من الدول الإقليمية والدولية التي تختلف في كل شيء تقريباً إلا في اتفاقها على عدم السماح بتحقّق ربيع عربي متحرّر من التخلف والكبت والقمع. تطلّب هذا الواقع الصعب مواءمات مريرة، خصوصاً بعد الاستهداف والتحريض الذي تعرّضت له الدولتان، وكان من تداعياته حصار قطر، عام 2017، ومحاولة المسّ بالأمن القومي التركي في شمال سورية، وإثارة القلاقل السياسية والاقتصادية فيها، وصلت حد انقلاب عسكري فاشل، عام 2016. كلنا يعرف بقية الحكاية ونوعية المواءمات الإقليمية التي أجرتها كل من الدوحة وأنقرة، مستفيديْن من أن أوضاع الحلف المناوئ لهما إقليمياً لم تكن أفضل، وهو ما اضطرّه إلى عقد مصالحات أو هدن معهما.

عودة إلى السياق التركي الذي شهد انتخابات تشريعية ورئاسية حاسمة في مايو/ أيار من هذا العام كانت الأصعب على حزب العدالة والتنمية الحاكم عقدين. فجأة وجد الحزب نفسه أمام إمكانية حقيقية لخسارة الرئاسة والبرلمان معاً جرّاء تصاعد الأزمة الاقتصادية وارتفاع معدّلات التضخم اللذين ضاعفت من آثارهما جائحة كوفيد – 19 والزلزال المدمر الذي ضرب جنوب تركيا وغرب سورية، في فبراير/ شباط الماضي. ولأن تركيا ليست استثناء في السياق الإنساني الاجتماعي، تضاعفت المشاعر العنصرية فيها مدفوعة بقناعة لدى شريحة واسعة من الأتراك أن الأزمة الاقتصادية نتيجة مترتبة على الأعداد الكبيرة للاجئين السوريين في بلادهم ممن يقاسمونهم رغيف الخبز ويشكلون ضغطاً على البنية التحتية لبلادهم. وكما في أوروبا والولايات المتحدة، ودول عربية وأفريقية ولاتينية، ركبت بعض أطياف المعارضة مشاعر الغضب والاستياء لدى بعض القطاعات الشعبية، محولة إياها إلى خطاب عنصري تحريضي وجد رواجاً واسعاً، خصوصاً في تحذيره من أن الوجود الأجنبي في البلاد لا يهدّد استقرارها الاقتصادي فحسب، بل وحتى هويتها الوطنية وخصوصيتها الثقافية. ولأن حزب العدالة والتنمية، والرئيس نفسه، كانا قد تبنيّا من قبل خطاب “المهاجرين والأنصار” فقد وجدا نفسيهما، في ظل الأزمة الاقتصادية والتضخّم الخانقين، كمتهمين في محكمة الرأي العام، وكادا فعلاً أن يدفعا ثمناً باهظاً في الانتخابات أخيرا.

كلنا يذكر أن الرئيس أردوغان، بعد الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، اضطرّ إلى طلب الدعم من المرشّح القومي، سنان أوغان، وتحالفه “الأجداد”، والذي بنى حملته الرئاسية غير الناجحة على التحريض ضد اللاجئين السوريين وضرورة إعادتهم إلى بلادهم، ومكافحة الإرهاب. أيضاً، سعى مرشّح المعارضة، كمال كليجدار أوغلو، إلى نيل دعم أوغان الذي حصد 5% من الأصوات في الجولة الأولى من الانتخابات. في المحصّلة، أيد أوغان أردوغان الذي فاز في الانتخابات في الجولة الثانية. لا يمكن إنكار أن التحوّل في خطاب (وسياسات) حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان من اللاجئين السوريين، حتى قبل الانتخابات، كان مرتبطاً بها وبحقيقة تصاعد مشاعر العداء بين بعض أطياف الشعب ضدهم. من هنا، طَرَحَ أردوغان فكرة توطين مليون سوري “بشكلٍ طوعي” في شمال سورية، إلا أن السلطات اتبعت بعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية الصعبة مبدأ الترحيل القسري في حالات عديدة. ويبدو أن كثيراً من ذلك يتم من دون موافقة أو توجيه مركزي من الحكومة، التي تجد نفسها بين مطرقة اتهامات المعارضة وتزايد التذمّر الشعبي من اللجوء السوري، وسندان المواقف المبدئية والأخلاقية التي كان الرئيس يحرص على بثها في هذا الملف.

باختصار، تصاعد العنصرية والإساءة بحق اللاجئين والأجانب في تركيا حقيقي، وإنْ من الخطأ التعميم هنا، والحكومة، من حيث كونها تجسّد السيادة، تتحمّل مسؤولية فيهما، سواء لعجزها عن التصدّي لهما أم لمنحهما هامشاً للتعبير عن نفسيهما. إلا أنه، في الوقت ذاته، ليس من الموضوعية ولا الإنصاف تناسي ما قدّمته تركيا للاجئين السوريين، والثمن الذي دفعته، وما زالت في سبيل ذلك. ولو كان “العدالة والتنمية” والرئيس أردوغان متواطئين فعلاً، بشكل كلي ومنهجي، في الخطاب والممارسات العنصرية ضد اللاجئين السوريين والأجانب لكان الواقع أشدّ قتامة وبؤساً. ما يجري في تركيا اليوم لا ينبتّ عمّا يجري حتى في دول الغرب من تصاعد الخطاب اليميني الشعبوي، ومحاولة تحميل الأقليات واللاجئين والطبقات المهمّشة مسؤولية الأزمات السياسية والاقتصادية والثقافية. كذلك، لسنا، نحن العرب، استثناء من جوائح العنصرية والعصبية والتعصّب. كما أن بعض أنظمتنا تتحمّل جزءاً كبيراً من المسؤولية، فهي السبب الأساسي وراء تشريد كثيرين من أبناء شعوبها في بقاع العالم الذي يضيق ذرعاً بهم.

مقالات ذات صلة