غول مدارس الاحتلال يسرق طلاب القدس

هنادي قواسمي

  • منذ عام 2017، ينتقل بالمعدل 970 طالباً مقدسياً من واحدة من المدارس الفلسطينيّة الخاصّة إلى إحدى المدارس التابعة للنظام التعليمي الإسرائيلي مباشرةً (مدارس البلدية)، وبالأخصّ إلى تلك التي تُعلّم منها المنهاج الإسرائيليّ.
  • ما بين 2014-2020، سجّلت قفزة كبيرة في عدد المدارس البلدية التي افتُتحت حديثاً وتعلّم المنهاج الإسرائيليّ، ويوفّر بعضها مسارات تعليميّة تخصصيّة، لا مقابل لها في المدارس الفلسطينيّة الخاصة، كالمسارات التكنولوجية والفنيّة والموسيقيّة والمهنيّة. في الفترة المذكورة، افتُتحت 32 مدرسة جديدة.
  • حسب معلومات بلدية الاحتلال، فإنّ 60% من الطلاب الذين يلتحقون بهذه المدارس حديثة البناء إسرائيلية المناهج، ينتقلون إليها من المدارس الفلسطينيّة الخاصّة. 
  • تسعى سلطات الاحتلال إلى أن يكون نظامها التعليمي الرسميّ هو النظام الذي يستقطب الغالبية العظمى من طلاب القدس. تريدهم أن يدرسوا في مدارسها، ويتعلموا منهاجها، في الوقت الذي تُحارب فيه المدارس الخاصّة وتَبتزها في التمويل الذي تتلقاه، وتضغط عليها لتعليم منهاج فلسطينيّ محرّف، هذا عدا عن الحرب الشرسة ضد مدارس الأوقاف والأونروا.
  • يندرج هذا الهدف ضمن سعي الاحتلال المستمر لتعزيز سيادته على المدينة في مختلف القطاعات، بحيث يكون هو العنوان الرئيس لمختلف الخدمات الحياتية. وكذلك قمع التوجهات الوطنية للمقدسي من خلال تجذير ربطه بمؤسسات الاحتلال، منذ نعومة أظافره في الروضة وحتى وظيفة عمله في السوق الإسرائيلي. 

***********************************

في أيلول/ سبتمبر 2021، في قرية شرفات، جنوبيّ القدس، افتتح رئيسُ بلدية الاحتلال، موشيه ليئون، مدرسةً جديدةً حديثة البناء تحمل اسم “مدرسة حوار”. تستقبل المدرسة الطلبةَ الفلسطينيّين ذكوراً وإناثاً، من الصف الأوّل حتى الثامن، ويأتون إليها من مختلف أحياء المدينة. المدرسة التي بُنيت بأموالِ حكومةِ الاحتلال وتتبع جهازَه التعليميَّ في المدينة، تُعلّم في جميع صفوفها المنهاجَ الإسرائيليّ، ويبلغ عدد طلابها ما يقارب 350 طالباً.

على بعد أمتارٍ قليلة، تقع في القرية نفسها مدرسةٌ أخرى اسمها “مدرسة شرفات المختلطة”، تقع بعض صفوفها في مبانٍ بُنيت في عشرينيات القرن الماضي، أي زمن الاحتلال البريطاني، وتستقبل الطلبة من الصف الأوّل حتى الثاني عشر، جلّهم من شرفات ومحيطها، وبعضهم من مناطق وأحياء أبعد داخل مدينة القدس.

لكن، على خلاف مدرسة “حوار”، تتبع “مدرسة شرفات المختلطة” للمرجعية التعليميّة الفلسطينيّة ضمن ما يُسمّى “مدارس الأوقاف”، وتُدرّس المنهاج الفلسطينيّ. وعكس مدرسة “حوار”، “لا تُشدُّ الرحال” إلى “مدرسة شرفات المختلطة”، إذ تُعاني من تناقص أعداد الطلبة فيها شيئاً فشيئاً. لا يوجد رقم دقيق لعدد طلاب المدرسة الكلي، لكن شهادة أبناء القرية تُشير إلى صفوف لا يتجاوز عدد الطلبة فيها الـ15 طالباً للصفّ الواحد.

شاب فلسطيني في ساحة إحدى المدارس التابعة لبلدية الاحتلال في القدس، بعد أن خُطّت شعارات وطنية على جدرانها عشية افتتاحها من قبل رئيس البلدية في حينه نير بركات، تشرين الثاني 2010. (أحمد غرابلي/ وكالة الصحافة الفرنسية).
شاب فلسطيني في ساحة إحدى المدارس التابعة لبلدية الاحتلال في القدس، بعد أن خُطّت شعارات وطنية على جدرانها عشية افتتاحها من قبل رئيس البلدية في حينه نير بركات، تشرين الثاني 2010. (أحمد غرابلي/ وكالة الصحافة الفرنسية).

“نحن المرجعيّة”

يُمثِّل هذا المشهد؛ ما بين مدرسةٍ تابعةٍ للنظام التعليميّ الفلسطينيّ (مدارس الأوقاف في هذه الحالة) يتناقص عدد الطلبة المنتسبين إليها عاماً بعد عام، وبين مدرسةٍ جديدة أخرى، في منشآت عمرانيّة متطورة، تابعةٍ للنظام التعليميّ الإسرائيليّ، تستقطب الطلبةَ من كلّ حيٍّ من أحياء المدينة، ويزيد عددهم عاماً بعد عام، انعكاساً مباشراً لواحدٍ من أهداف السياسات الإسرائيليّة فيما يخصّ قطاع التعليم في مدينة القدس.

هذا الهدف هو: أن يُصبح النظامُ التعليميّ الإسرائيليّ المرجعية التعليميّة الأولى والأكبر في شرق القدس، أي أن يستحوذ على النسبة الأكبر من الطلبة المقدسيّين، في مقابل خفض نسبة الطلبة الذين يتوجهون إلى المرجعيات التعليميّة الأخرى، أي إلى المدارس التابعة للأوقاف أو الأونروا أو حتى المدارس الخاصة (التي كانت يوماً ما خاصّة أهلية، لكنها بدأت منذ ما يزيد عن ثلاثة عقود بتلقي دعمٍ مالي من سلطات الاحتلال – 99% منها يفعل ذلك).

يندرج هذا الهدف ضمن توجهٍ إسرائيليٍّ رسميٍّ عامّ بدأ بالتبلور منذ حوالي عقدٍ من الزمن، ودفعت باتجاهه أكثر فأكثر أحزاب ما يُسمّى اليمين الإسرائيلي. يرى هذا التوجه أنّ السيادةَ الإسرائيليّةَ المفترضة على كامل القدس تستدعي أن تُكثّف الحكومةُ مخططاتها وتزيد ميزانيتها للصرف على مختلف قطاعات الحياة في شرق القدس، من تعليمٍ وصحّةٍ وتشغيل ورفاه وبُنيّة تحتيّة، مع التركيز على الحصّة الأكبر للتعليم، فلا يُعقل – بمنطق ذلك التوجه – أن يُدّعى أنَّ “شرق القدس” جزءٌ من العاصمة الإسرائيليّة الموحدة بينما توَّفَر الحصةُ الأكبر من الخدمات التعليميّة فيها مثلاً من جهاتٍ غير تابعة للمظلة التعليمية الإسرائيليّة الرسميّة، وبينما يدرسون في مدارس تلك الجهات مناهج غير إسرائيلية.

اقرؤوا المزيد: “الخطّة الخمسية.. ماذا تفعل “إسرائيل” في القدس”؟

تُريد “إسرائيل” أن تكون العنوان الأوّل لتقديم مثل تلك الخدمات للفلسطينيين في القدس، ليس حبّاً في أن “يستوفوا حقوقهم”، كما يحلو للتعبير الحقوقيّ أن يخبرنا، ولكن لكي تكون هي “السيد” في المكان”، ولكي توّظف ذلك أداةً من أدواتها “الناعمة” لقمعهم وضبط توجهاتهم الوطنيّة والسياسيّة، وتجذير عزلهم عن الضفّة الغربيّة، وتعزيز سطوتها عليهم.

بالاعتماد على زيادة الصرف على هذه القطاعات “المعيشية” وتوسيع رقعة “المستفيدين” منها، تسعى “إسرائيل” إلى ربط الخيارات الفرديّة للمقدسيين المتعلقة بمستقبلهم المهنيّ بالمؤسسات الإسرائيليّة، منذ نعومة أظافرهم في الروضات التابعة لها، مروراً بمدارسها ومناهجها الإسرائيليّة، ثم بتحفيزهم على الدراسة في جامعاتها، ووصولاً إلى توفير فرص عملٍ لهم في سوقها الاقتصاديّ.

في السطور التالية نشرح مشهد التزايد في أعداد المدارس التابعة للنظام التعليمي الإسرائيليّ في القدس، وملامح ذلك. وقبلها، لا بدَّ من العودة قليلاً إلى الوراء، لنبدأ بشرح أنواع المدارس في القدس.

استدراك لا بد منه

كانت إحدى تداعيات قرار الضمّ الإسرائيليّ لشرق القدس عام 1967، أن وضعت بلديةُ الاحتلال ووزارةُ المعارف الإسرائيليّة يدها على مدارس المدينة التي كانت قبل 1967 مدارس حكوميّةً تتبع لوزارة التربيّة والتعليم الأردنيّة.1 أصبحت تلك المدارس منذ تلك اللحظة تابعةً للنظام التعليميّ الإسرائيليّ، أي أنّها انتقلت من يدٍ حكوميّة إلى يدٍ “حكوميّة” أخرى. هذا هو النوع الأوّلُ من المدارس في القدس، وتُسمّى أحياناً “المدارس الرسميّة”، أو كما يُسمّيها أهالي القدس عادةً “مدارس البلديّة”، لأنها تتبع في إدارتها (في الغالب) لبلدية الاحتلال. ولأنّها مدارس “حكوميّة”، فهي مجانيّة.

اقرؤوا المزيد: “يوم القدس.. مسرحية الرقص بالأعلام”.

بشكلٍ عام، يُدَّرَسُ في هذه المدارس المنهاجُ الفلسطينيّ2 أو المنهاجُ الفلسطينيّ المُحرّف.3 لكن، منذ عام 2013 تقريباً، تصاعد فرض المنهاج الإسرائيليّ في هذا النوع من المدارس، فأصبح في كثيرٍ منها صفوفٌ للمنهاج الفلسطينيّ وأُخرى للإسرائيليّ. والخطوة الأكثر تقدماً كانت افتتاح مدارس بلدية جديدة تُدرّس المنهاجَ الإسرائيليّ في كلّ صفوفها، ولا خيار آخر فيها. 

أما النوع الثاني، فهو المدارس الخاصّة، وهي التابعة لشركاتٍ أو جمعياتٍ خيريّةٍ أو كنائس، وتُسمّى إسرائيليّاً بـ”المدارس المعترف بها غير الرسميّة”.4 يتراوح القسط التعليميّ فيها بين 1000- 3700 دولار للطالب في العام الدراسيّ الواحد. تُعلّم في معظمها المنهاجَ الفلسطينيّ، وبعضها بدأ بالتوجه نحو تبني مناهجَ دوليّة. وهناك عدد محصور جداً (حتى اللحظة) من هذه المدارس يُعلم المنهاجَ الإسرائيليّ.5 وفي هذين النوعين معاً يتعلم غالبيةُ طلاب مدينة القدس الفلسطينيّين (حوالي 70-80%).

أما النوع الثالث، فهو “مدارس الأوقاف”، التي تتبع من حيث نظامِها التعليميّ لوزارة التربية والتعليم الفلسطينيّة التابعة للسلطة الفلسطينيّة، إلا أنّها لا تنشط في القدس تحت هذا العنوان، لأنّ القانون الإسرائيليّ يمنع أي نشاطٍ رسميّ للسلطة في المدينة دون تصريحٍ منه. والنوع الرابع هو المدارس التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيّين “الأونروا”، كتلك المنتشرة في مخيمات الضفّة والقطاع. أبرزها وأكثرها من حيث عدد الطلبة هي مدارس الأونروا في مخيم شعفاط. والنوعان الأخيران مجانيّان، ويُعلّمان المنهاج الفلسطينيّ، ويدرس فيهما حوالي 20% من طلاب المدينة.

تشترك الأنواع الثاني، والثالث، والرابع، من المدارس، بأنها غير تابعة للنظام التعليمي الإسرائيليّ مباشرةً، وإن كانت الغالبية العظمى من المدارس الخاصة (النوع الثاني) تتلقى تمويلاً من سلطات الاحتلال. وبما أنها خارج مظلة النظام التعليمي الإسرائيليّ فإن هذه الأنواع تعيش وطلابها ومعلموها تحت نار المعركة الإسرائيليّة لإخضاعها، إما بإغلاقها، كما هو حال السعي الإسرائيلي في حالة مدارس الأونروا والأوقاف، أو بتبديل مناهجها من الفلسطينية إلى الإسرائيلية، كما هو الحال في المدارس الخاصة.

مدارس بلدية في كل مكان

لكي يُحقَّقَ الهدف الإسرائيليّ في أن يصبح نظامهم هو المرجعيّة الأولى للتعليم، عمدت سلطات الاحتلال إلى تكثيف عمليات البناء للمدارس الجديدة أو عمليات استئجار مبانٍ سكنيّة وتحويلها إلى مدارس. ويُمكن للمتجوّل في أحياء مدينة القدس أن يلاحظ ذلك بسهولة، فقد ازدادت تلك المباني في وسط الأحياء، وكثُرت اللافتات المعلقة في كل شارع للإعلان عن المدارس الجديدة.

بحسب بيان صحافيّ صادر عن بلدية الاحتلال، افتُتحت 9 مدارس جديدة في شرق القدس في العام الدراسي 2020/2021. أما للعام الدراسي الحالي 2022/2023، فقد قالت البلدية إنّها افتتحت 100 صف دراسي جديد، بواقع 3 مدارس جديدة في كل من وادي الجوز وأم طوبا وصور باهر، تُعلّم في غالبية صفوفها المنهاج الإسرائيلي.

وبحسب البلدية أيضاً، فإنّه تُفتح في شرق القدس بالمعدل 5 مدارس/ روضات سنويّاً، منذ عام 2018 تقريباً. ووفق معلومات أخرى، افتُتحت من 2014 حتى 2020، 32 مدرسةً جديدةً في شرق القدس. تتألف هذه المدارس الجديدة (الـ32) من 508 غرفة صفّية، منها 297 غرفة بُنيت حديثاً، والباقي تم استئجارها في مبانٍ قائمة.

رئيس بلدية الاحتلال السابق، نير بركات، خلال افتتاحه مدرسة العلا المختلطة، في وسط القدس المحتلة، عام 2018. وللمفارقة فإنّ المدرسة الجديدة استأجرت مبنى كانت تشغله إلى وقت قريب مدرسة تابعة لمدارس الأوقاف في القدس. (الصورة من شبكات التواصل الاجتماعي).

ولغرض المقارنة مع سنواتٍ سابقة، نرى أنّه خلال ست سنوات (2014-2020) بُنيت 297 غرفة صفّية جديدة، بينما خلال 11 عاماً (من2001-2012) بُنيت 314 غرفة صفيّة، أي بفارق 17 غرفة صفيّة فقط. وإذا أردنا حساب ذلك بالمعدل السنويّ، فإنّه بين 2001 حتى 2012، بُنيت بالمعدل 28 غرفة صفّية جديدة، بينما بين 2014-2020، بُنيت بالمعدل 50 غرفة صفّية للعام الواحد.

وبالاعتماد على أرقام أخرى، في العام 2011، كانت هناك 89 غرفة صفيّة في طور البناء في شرق القدس، و193 غرفة صفية في طور التخطيط الهندسيّ. قفز هذا الرقم عام 2020، ليصبح 198 غرفة في طور البناء، و628 غرفة صفية في طور التخطيط. وبالمجمل يمكن رؤية هذا التصاعد بشكلٍ تراكميٍّ من الرقم التالي: من 54 مدرسة فقط تابعة للنظام التعليميّ الإسرائيليّ عام 2011/2012، توجد في شرق القدس اليوم 117 مدرسة على الأقل (للعام الدراسي 2021/2022).

ولا تنحصر هذه الزيادة على بناء المدارس فقط، فقد كثّفت سلطات الاحتلال في السنوات الأخيرة بناء الروضات (من جيل 3-5 سنوات)، لاستقطاب الطلبة منذ سنواتهم الأولى، خاصّةً أن الفارق بين عدد الروضات الخاصّة وعدد روضات البلدية الإسرائيلية فارق كبير لصالح الأولى.

ويمكن ملاحظة انعكاسات ذلك من خلال نسبة الطلبة في “مدارس البلدية”، وإن كان الارتفاع يسير ببطء، لكنه مستمرٌ في الارتفاع. في العام الدراسي 2011/2012، كانت نسبة من يدرسون في المدارس التابعة لبلدية الاحتلال حوالي 46%، أما في العام الدراسي 2020/2021، فإنّ نسبتهم وصلت 50.5%.

بحسب يؤاف زمران، رئيس دائرة التعليم الحالي في بلدية الاحتلال، فإنّه إذا استمرت “إسرائيل” في بناء المزيد من الغرف الصفيّة في شرق القدس، فمن المتوقع أن تصل نسبة الطلبة المقدسيين الذين يدرسون في المدارس البلدية خلال 7 سنوات إلى حوالي 70% من مجمل عدد الطلبة.6

أما المدير السابق لدائرة التعليم في البلدية، أفيف كنان، ففي مقابلته مع صحيفة “ذي ماركر”، والمنشورة في أغسطس/ آب 2020، قال: “في كل سنة نفتح ثلاث – أربع مدارس في شرق القدس”، ويكمل: “استراتيجيتنا في إدارة التعليم هي تحويل المدارس الرسميّة إلى مدارس أكثر جاذبيّة، بما أن أغلب طلاب القدس اليوم يدرسون في مدارس خاصّة أو مدارس خارج الإطار الرسميّ”.

وفي محاضرة له، افتخر تسيون ريجيف (المسؤول من طرف بلدية الاحتلال عن تطبيق الخطّة الخمسية في مجال التعليم في شرق القدس) بأنّ هناك عملية انتقال واسعة من المدارس الخاصّة نحو مدارس البلدية، وقدّر ذلك بنحو 60%، أي أنّ نحو 60%من الطلاب الذين يلتحقون بهذه المدارس حديثة البناء يأتون من المدارس الخاصّة7، وهذا يتقاطع مع هدف الاحتلال في تحوّل مدارسه إلى صاحبة الحصة الأكبر بالنسبة لعدد الطلاب المندرجين في إطارها.8

وبالرجوع إلى البيانات المتاحة، فإنّه منذ العام الدراسي 2017/2018 إلى اليوم، ينتقل سنويّاً ما معدله 970 طالباً مقدسياً من واحدة من المدارس الخاصّة إلى إحدى المدارس البلديّة.

ومن المهم أن نذكر هنا، أن الغالبية العظمى من المدارس البلدية التي تُتفتح حديثاً، تُعلّم المنهاج الإسرائيليّ، إلا في حالات استثنائية، توفر المنهاجين، الإسرائيلي والفلسطيني.

من اللغات حتى تصليح الجوالات.. “إنت بس تعال!”

تعتمد بلدية الاحتلال على عدة عوامل لجعل مدارسها أكثر “جاذبيةً” بحسب تعبير كنان. بدايةً، فإنّ السمعة الرائجة في القدس عن مدارس البلدية أنها ذات تحصيل علميّ متدنٍ إلا فيما ندر، وهو أحد الأسباب التي جعلت كثيرين يحجمون عموماً عن تسجيل أولادهم فيها، وبالأخصّ في المرحلة الابتدائيّة التي يحتاجون فيها إلى جهدٍ تعليميّ مضاعف.9 بدأت بلدية الاحتلال في محاولتها لقلب هذه السمعة من خلال إنشاء مدارس للمتفوقين، كمدرسة الروّاد الثانوية للمتميزين، والتي يشترط التسجيل فيها النجاحَ في امتحانٍ للقبول، ومعدلاً فوق الـ80.

ثانياً، من أدوات الجذب أيضاً افتتاح مدارس تخصصيّة، يتخصص فيها الطالب في موضوعاتٍ تعليميّة بعينها، وهي موضوعات يكاد ينعدم وجودها في المدارس الخاصّة أو مدارس الأوقاف، مثل التكنولوجيا، والموسيقى والفنون، أو اللغات. توظّف سلطات الاحتلال انفتاح المراهقين والشباب اليوم على خياراتٍ عدّة، وإقبالهم على اهتماماتٍ لم تكن رائجةً بنفس المستوى قبل حوالي عقدين من الزمان، لجذبهم إلى نظامها التعليميّ. بدلاً من حصر نفسك بخيارات “تقليدية”: الأدبيّ أو العلميّ، التجاريّ أو الصناعيّ وغيرها، وفق نظام التوجيهيّ، تقول الدعاية، يُمكنك من خلال الالتحاق بمدارس البلدية التخصصيّة أن تنفتح على مجموعة من الخيارات التي توافق اهتماماتك ورغباتك المستقبليّة في التخصص الجامعيّ.10

سيدة تمرّ أمام مبنى مدرسة فلسطينية خاصّة في حي كفر عقب شمال القدس المحتلة، آب 2022. (عباس المومني/وكالة الصحافة الفرنسية).

وقد لا يكون هذا “التخصص” عامّاً لكل المدرسة، إذ افتتحت بعض المدارس البلدية الثانوية مساراتٍ تعليميّةً جديدة إلى جانب المسارات التقليديّة، منها مثلاً: التخصص في تربية الأطفال أو التجميل للبنات، والتخصص في إصلاح الهواتف الخلوية وميكانيكا السيارات للأولاد.

وهكذا تحاول مدارس بلدية الاحتلال من خلال تنوّع التخصصات والمسارات أن تُشكّل البديل عن المدارس الخاصّة لمختلف أنواع الطلبة: أولئك “المتفوقون” الباحثون عن طريق أسرع لتخصص جامعيّ يحلمون به، وأولئك الذين يريدون إنهاء الثانوية بـ”أقلّ الخسائر” (دون الاضطرار لتقديم امتحانات التوجيهي) وضمان مصدر دخل مستقبلي.

لكن الزيادة في عدد الطلبة في المدارس البلديّة غير مقتصر فقط على المدارس التخصصيّة، فعددٌ منهم ينتقلون إلى مدارس بلديّة عادية. أحد العوامل في ذلك، الدعاية التي تروّجها سلطات الاحتلال عن “إيجابيات” المنهاج الإسرائيليّ، ومقارنته مع “سلبيات” المنهاج الفلسطينيّ. تستغل تلك الدعاية ضعف أساليب التعليم المتبعة في تدريس المنهاج الفلسطينيّ واعتمادها في الغالب على مهارة الحفظ، من أجل الترويج للمنهاج الإسرائيلي باعتباره “الأسهل”.

كما أنّ جزءاً أساسيّاً من هذه الدعاية مرتبطٌ بالترويج الإسرائيليّ المُتصاعد للجامعات والكليات الإسرائيليّة في أوساط الخريجين المقدسيين.11 ضمن هذا الترويج تقول المعادلة: “لضمان وظيفة عمل في القدس التي يسودها القانون الإسرائيلي، الأفضل لك الدراسة في جامعة إسرائيليّة بدلاً من وجع راس الجامعات الفلسطينية التي لا يعترف بكل تخصصاتها، وأن تجيد اللغة العبريّة، وفرصك للقبول في جامعة إسرائيليّة تزداد في حال تخرجت من مدرسة تعلّم المنهاج الإسرائيليّ”. تُعمي هذه الدعاية عيون الكثيرين عن النسب المتدنية لأولئك الذين ينجحون بإنهاء الثانوية الإسرائيليّة في القدس (أي أن نسب انهاء الثانوية في القدس بين من يدرسون المنهاج الإسرائيلي هي نسب متدنية مقارنةً بأولئك الذين ينجحون في إنهاء الثانوية بمنهاج فلسطيني – توجيهي).

ولضمان استقطاب المزيد من الطلبة المقدسيين إلى مدارسها، عمدت بلدية الاحتلال إلى جعل معظم المدارس حديثة التأسيس من نوع المدارس “فوق – المناطقية”، أو بالعبرية (عال إيزوري). يعني هذا التوصيف أن المدرسة التي تُبنى مثلاً في حي بيت حنينا، يمكنها استقبال الطلبة من مختلف أحياء مدينة القدس، وليس فقط سكان الحيّ نفسه.

في الماضي القريب، كان الراغب في تسجيل أبنائه في مدارس البلدية يُرسل إلى المدرسة البلدية الأقرب إلى مكان سكنه، وفي نفس حيّه، ولا يحق له أن يطلب مدرسة بعينها داخل المدينة، إلا في حالات استثنائية. أما اليوم، فقد جُعلت كلّ المدارس الجديدة التي تُعلّم المنهاج الإسرائيلي “عابرة للأحياء”، أو “فوق مناطقية”، بحيث يمكن لأي طفل أن يلتحق بها بغض النظر عن مكان سكنه، وهذا الأمر بطبيعة الحال يزيد إمكانية انتقال الطفل إلى مدرسة بلدية، لأنّ أمامه خيارات واسعة، وليس فقط المدرسة الموجودة في حيّه. (لا يُطبق ذلك على مدارس البلدية التي تعلّم منهاجاً فلسطينياً).

لماذا تبني “إسرائيل” صفوفاً أكثر للمقدسيين؟

يمكن تفسير الصاعد في بناء الصفوف، أو في محاولة استقطاب المزيد من الطلبة للنظام التعليمي الإسرائيليّ وفق عاملين، الأول تقني، والثاني استراتيجيّ.

يتعلق العاملُ الأوّل بقرار المحكمة العليا الإسرائيليّة (رقم 5373/08) الصادر في شباط/ فبراير 2011. على مدار سنوات طويلة دأبت جمعياتٌ حقوقيّةٌ إسرائيليّة على إصدار دراسات ترصد النقص في الغرف الصفيّة في شرق القدس (بعضها يقول إنّ هناك  نقص بـ3 آلاف صف)، وكذلك على رفع دعاوى ضدّ حكومة الاحتلال لعدم توفيرها خياراً مجانيّاً يتعلم فيه أطفال شرق المدينة.

ألزم القرارُ الصادر عن العليا الحكومةَ بالعمل على بناء المدارس بما يضمن سدّ النقص في الغرف الصفيّة، وذلك حتى عام 2016. وفي حال لم يتم ذلك في الموعد المحدد، فعلي الحكومة تحمل نفقات كل طالب يضطر أهله للدراسة في المدارس الخاصة لأنه لم يجد مقعداً في المدارس البلدية. لذلك فإنّ الزيادة التي نراها في عدد المدارس حديثة البناء مرتبطة أيضاً بهذا القرار. كما أنّها قد تكون في بعضها مرتبطة بحقيقة أن بعض المدارس يتم التخطيط لها ولكن لا يخرج بناؤها إلى حيز التنفيذ إلا بعد سنوات طويلة، وهو ما قد يُفسّر الصعود المفاجئ في عدد المدارس الحديثة.

لكن من جهةٍ أخرى، ودون أن يكون هناك تناقض مع النقطة الأولى، فإنّ تلك الزيادة هي أيضاً نتيجة سياسة رسميّة إسرائيليّة ترى أن توسيع نطاق تقديم الخدمات المعيشية من تعليم وصحة وبنى تحتية وغيرها في شرق القدس، لتكون “إسرائيل” هي العنوان الأبرز لتقديمها، هو عمل صهيونيّ بامتياز، يساهم في تعزيز السيادة الإسرائيلية على كامل المدينة، ويمنع التفريط بها في أي مفاوضات قد تحدث. عدا عن أنّ هذا الصرف المتزايد على الخدمات – وفق تلك الاعتبارات – يُرجى منه المساهمة في ربط أيادي المقدسيين وتكبيلها عن مقاومة الاحتلال.12 فيما يتعلق بالتعليم تحديداً، فإن هذه السياسة واضحة من خلال الخطّة الخمسية، التي أعلنت أن من ضمن أهدافها زيادة عدد الطلاب الذي يدرسون في المدارس البلديّة على حساب المدارس الخاصّة.

لا تترك “إسرائيل” باباً إلا وتطرقه، فمن جهة تزيد من بناء مدارسها سعياً لجعلها العنوان الأول للطلبة المقدسيين، ومن جهة أخرى تحارب كلّ المرجعيات التعليمية الأخرى. تُحارب المدارس الخاصة بابتزازها بالتمويل الذي تحصل عليه من وزارة المعارف، فلا تجديد للتمويل أو للترخيص الإسرائيلي إلا إذا وافقت تلك المدارس على تعليم المنهاج الفلسطيني المُحرّف، وهي الحرب التي ما زالت مفاعيلها نشطة مع بداية العام الدراسي الحالي 2022-2023.

وأما مدارس الأوقاف، والتي منها مدرسة شرفات التي بدأنا المقال بها، ففي 20 تشرين الثاني/ نوفمبر الثاني 2019، اقتحمت شرطة الاحتلال مبنى مكتب مديرية التربية والتعليم في البلدة القديمة للقدس، وعلّقت أمراً من وزير الأمن الداخليّ الإسرائيلي بإغلاقِهِ لمدة 6 شهور (مُدد الأمر العسكري أكثر من مرة)، بدعوى أنّه يمارس نشاطاتٍ تابعة للسلطة الفلسطينيّة. أي أن المكتب الذي تُدار من خلاله شؤون مدرسة شرفات المختلطة، وغيرها من المدارس الفلسطينيّة التابعة لهذه المرجعية التعليمية، مُغلقٌ بقرارٍ أمنيٍّ إسرائيليّ، ورغم أنّ المدارس التابعة له ما زالت تعمل حتى الآن، إلا أن ذلك يجعلها في وضعيةٍ قلقة لا تأمن فيها أي تطورٍ أو تصعيد إسرائيليّ فيما يخصّ معركة التعليم في المدينة.

ومدارس الأونروا، وعلى قلّة عددها، فإن بلدية الاحتلال أعلنت صراحةً عام 2018، أنّها تريد إنهاء عملها في القدس، وبناء على هذه الرؤية كشفت عن خطّة لبناء مجمع مدرسيّ ضخم بالقرب من حاجز مخيم شعفاط شمال القدس، ليكون بديلاً عن مدارس الأونروا في المخيّم، إذ تدرس هناك النسبة الأكبر من طلبة مدارس الأونروا.

ما كُتب أعلاه هو جانب واحد فقط من جوانب الحرب التي تشنها سلطات الاحتلال على قطاع التعليم في القدس. تتشابك مع هذا الجوانب جوانب أخرى، وعلى رأسها المنهاج الإسرائيلي وسياسة فرضه. وإن كان الواقع شديد القسوة فإنّ ذلك لا يعني الاستسلام التام أمامه، ولا يعني كذلك أن سياسات الاحتلال وأهدافه نافذة تماماً في عقول ووعي المقدسيين وانتمائهم الوطني.

وبينما لا تساهم السلطة الفلسطينية بجهد حقيقي وفعّال لمواجهة هذه الحرب، وبينما تحوّلت بعض المدارس الخاصّة إلى مشاريع ربحيّة لمؤسسيها، وأصبحت أكثر عرضة للابتزاز من قبل بلدية الاحتلال، فإنّ الأمل يبقى معقوداً على بعض المخلصين وعلى لجان أولياء الأمور وأهالي الطلبة، ليكونوا سدّاً أمام المزيد من التدهور في مستوى التعليم وأمام الرضوخ لسياسات أسرلته. وربما كان إضراب يوم الاثنين 19 أيلول/ سبتمبر، احتجاجاً على محاولات فرض المنهاج المُحرّف على بعض المدارس الخاصّة، مؤشراً على مكامن القوة في لجان أولياء الأمور والأهالي الواعيين، والتي يُمكن استثمارها لإحداث تغيير

مقالات ذات صلة