
السردية الإسرائيلية لتبرير الحرب على إيران
رندة حيدر
حرير- ترتكز السردية الإسرائيلية الرسمية لتبرير الحرب على إيران على تصوير هذه الحرب أمام الجمهور الإسرائيلي وجوديةً وعادلة، تهدف إلى ضمان مستقبل إسرائيل وشعبها في المنطقة، في مواجهة التهديد النووي الإيراني. أمّا السردية التي تقدّمها إسرائيل إلى دول العالم، فهي أن إسرائيل تحارب لإنقاذ العالم من تحوّل إيران دولةً نوويةً تهدّد الاستقرار الإقليمي والعالمي. وبهذه الطريقة، تحاول إسرائيل بناء إجماع إسرائيلي داخلي داعم للحرب، والحصول على شرعية دولية من أجل مواصلة هجومها على إيران. وقد تمكّنت من تحقيق ذلك، ولكن هذا، كلّما طال أمد الحرب وتوسّعت أهدافها، وتحوّلت حربَ استنزاف، يتسبّب ببروز تصدّعات في الإجماع الإسرائيلي الداخلي، والشرعية الدولية، في آن.
وافقت الحكومة الإسرائيلية على الخطط العسكرية للجيش الإسرائيلي بشنّ “هجوم استباقي” على إيران في هذا التوقيت، بينما ما يزال الجيش الإسرائيلي غارقاً في رمال غزّة منذ أكثر من عام وثمانية أشهر، والمحتجزون الإسرائيليون ما يزالون في أنفاق حركة حماس، وتستمرّ حرب الإبادة والتجويع والتهجير ضد الغزّيين. واللافت أن المستوى السياسي في إسرائيل نفسه، المتّهم بتحمّل المسؤولية عن الإخفاق الكبير في “7 أكتوبر” (2023)، والجيش الإسرائيلي الذي بدا مربكاً وعاجزاً عن الدفاع عن مستوطنات “غلاف غزّة”، يخوضان اليوم أكثر معركة مصيرية أهميةً، تحسم المستقبل السياسي لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ومستقبل إسرائيل كلّها. وليس من المبالغة القول إن ما يحدث اليوم هو إحدى النتائج المباشرة للهجوم الذي خطّطه ونفّذه يحيى السنوار في 7 أكتوبر، فالمواجهة غير المباشرة التي كانت في العقود الأخيرة بين إيران وإسرائيل من خلال أذرعها في غزّة ولبنان وسورية والعراق، وصولاً إلى الحوثيين في اليمن، تحوّلت اليوم حرباً مباشرةً طاحنةً.
ومنذ بدء الهجوم على إيران، وبعد استهداف الجبهة الداخلية الإسرائيلة بالصواريخ الباليستية الإيرانية، وسقوط ضحايا بين المدنيين، والدمار الكبير الذي لحق بمدن إسرائيلية عدّة، وتوقّف مرافق الحياة في إسرائيل، برزت بوضوح الجهود التي تبذلها الجهات الرسمية للتأثير في الرأي العام الإسرائيلي، وإقناعه بأن هذا الهجوم كان لا بدّ منه، وأن هذه حرب لا مفرّ منها. وضمن هذا السياق، بدأ ترويج التقديرات العسكرية عن قرار المرشد الأعلى، علي خامنئي، بعد الخسارة التي مني بها حزب الله في لبنان واغتيال الأمين العام لحزب حسن نصر الله، وبعد سقوط نظام بشّار الأسد في سورية، بتسريع العمل من أجل الحصول على سلاح نووي، وإنتاج مائة ألف صاروخ باليستي إيراني ذي قدرة تدميرية تعادل قنبلتَين نوويَّتين، بحسب مزاعم المراسل العسكري في صحيفة يديعوت أحرونوت، رون بن يشاي، من أجل التحضير للمواجهة المحتملة مع إسرائيل. ذلك كلّه لتضخيم الخطر الداهم الذي يتهدّد إسرائيل، إذا لم تبادر بشنّ “هجومها الاستباقي”، ولم تدمّر منصّات الصواريخ الباليستية.
تمكنت هذه السردية الإسرائيلية للحرب من الحصول على تأييد الجمهور الإسرائيلي. وبحسب استطلاع للرأي أجراه معهد دراسات الأمن القومي، في الأيام الأولى لاندلاع المواجهات، يؤيد معظم الجمهور الإسرائيلي الهجوم على إيران، ويعتقد أنه يستند إلى اعتبارات أمنية، ولديهم ثقة بالجيش، وأن لدى الجبهة الداخلية قدرة على دفع أثمان الحرب ثلاثة أشهر. في المقابل، أكثر من 70% يتخوّفون من تطوّرات هذه الحرب وعدم وجود خطّة لدى الحكومة لإنهائها.
وفي الواقع ومع استمرار أمد الحرب وتعقّدها، بدأت تبرز أصوات تشكّك في السردية الرسمية الإسرائيلية بشأن أهداف الحرب، وكيف يمكن أن تنتهي، مع تصاعد المخاوف من تحوّلها حرب استنزاف لا تخدم إسرائيل، ويمكن أن تكون لصالح إيران، وأن تؤدّي إلى تآكل ما يعتبرها الإسرائيليون “إنجازات” عسكرية حقّقها الجيش في “هجومه الاستباقي”.
قد تكون الأصوات الإسرائيلية المنتقدة للحرب ضدّ إيران ما تزال قليلةً، لكنّها مهمة، لأنها لا تقتصر على التيّارات المعارضة للائتلاف الحكومي، بل تشمل معلّقين من اليمين الإسرائيلي، وتحذّر كلّها من أمور عدة: خطورة الاستسلام للشعور بالنشوة والتقليل من شأن الخصم، فإيران دولة إقليمية عظيمة القدرات، والحرب ضدّها لا تشبه على الإطلاق الحرب ضدّ حماس أو حزب الله؛ التحذير من توسيع أهداف الحرب ووضع إسقاط النظام في إيران هدفاً لها؛ التنبيه إلى مغبّة عدم وضع خطّة سياسية لإنهاء الحرب، في ضوء ما يشبه إجماعاً إسرائيلياً على أن الضربات العسكرية الإسرائيلية لا يمكنها تدمير البرنامج النووي الإيراني تدميراً كاملاً من دون انضمام الولايات المتحدة إلى الهجوم، وكذلك بالنسبة إلى منصّات الصواريخ الباليستية، وأكثر ما يمكن أن تحقّقه إسرائيل دفع إيران إلى القبول باتفاق نووي جديد بشروط أميركية؛ ازدياد القناعة بأن الحرب الدائرة ليست حرباً عسكريةً فقط، بل هي حرب على المدن الإسرائيلية، لم يشهد الإسرائيليون مثلها منذ حرب 1948، والشكاوى من عدم إعداد الجبهة الداخلية الإسرائيلية كما يجب لمواجهة الصواريخ الباليستية الإيرانية، فلا تكفي الإنذارات والتحذيرات وتأمين الملاجئ والأماكن المحصّنة، بل هناك حاجات أخرى بدأت تبرز، مثل استيعاب السكّان الذين دُمّرت منازلهم، والتعويض للذين فقدوا كلّ شيء. وهذه المرّة من يدفع ثمن الحرب، ليس سكّان مستوطنات غلاف غزّة، كما في هجوم 7 أكتوبر، بل كلّ سكّان إسرائيل. وعلى الأرجح، ستزداد هذه الشكاوى والاحتجاجات وتتفاقم إذا تحوّلت الحرب الحالية حربَ استنزاف.