العلاقات بين تركيا وأميركا في الميزان

العلاقات بين تركيا وأميركا في الميزان

ديديه بيليون
المدير المساعد لمعهد العلاقات الدولية والاستراتيجية في باريس
تمرّ العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة بظرفٍ صعب، فيما تعدّدت مواضيع التوتّر في الأشهر الأخيرة. ذلك أن المناخ القومي المتفاقم الذي ترعاه السلطة التنفيذية، منذ محاولة الانقلاب في يوليو/ تموز 2016، وخطاب الحصن المُحاصر الذي يستخدمه الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، لتبرير الاستراتيجيّة القامعة للحريّة التي وضعها منذ سنوات، يُبقيان على الاستقطاب في المجتمع وعلى تنامي شعور قويّ بالتحدّي تجاه العالم الغربي.
إلا أنّ الخلافين الرئيسيين اللذين يُعكّران صفو العلاقات بين أنقرة وواشنطن، يعودان، وفقاً للسلطات التركيّة، إلى إشكاليّة مكافحة الإرهاب. وهما مرتبطان بالملفين المتعلّقين بحزب الاتحاد الديمقراطي وبـ “منظمّة غولن الإرهابيّة”، وهو التعبير المستخدم حالياً للحديث عن أنصار فتح الله غولن.

حزب الاتحاد الديمقراطي العدوّ الأوّل
التحدّي الكردي الذي تنظر إليه أنقرة على أنّه وجودي يكمن في أن حزب الاتحاد الديمقراطي، وهو الفرع السوري لحزب العمّال الكردستاني الذي تعتبره الحكومة التركيّة “العدوّ الأوّل”، قد فرض نفسه على جميع المجموعات الكرديّة السوريّة الأخرى، وأعلن الإدارة المحليّة (روجافا) في نوفمبر/ تشرين الثاني 2013، التي تحوّلت إلى كيان “فيدرالي ديمقراطي” في مارس/ آذار 2016. هكذا، وجدت أنقرة على حدودها منطقة واسعة تحت سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي تصفه بالـ “الكيان الإرهابي”. وتعقّدت المسألة، عندما أثبت حزب الاتحاد الديمقراطي أنّ مكوّناته المسلّحة (وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة)، التي يشرف عليها حزب العمال الكردستاني، قادرة على التصدّي بنجاح لتنظيم الدولة الإسلاميّة في معارك الميدان، ما جعله يظفر بدعم القوى الغربيّة، وفي مقدمتها الولايات المتّحدة الأميركيّة، وبدرجة ثانويّة، روسيا.
أصبحت تركيا إذاً أمام مفارقةٍ كبرى، فالمنظمات التي تَعتبرها أعداء رئيسيين باتت مدعومةً في الوقت نفسه من حلفائها.
في السياق، مثّلت عمليّة “درع الفرات” التي أُطلقت في 24 أغسطس/ آب 2016، والتي

كان هدفها المعلن استعادة مدينة جرابلس من يد تنظيم الدولة الإسلاميّة، نقطة تحوّل كبرى. أوّلاً، لأنّ من النادر أن يتدخّل الجيش التركي خارج حدوده، وثانياً لأنّ العملية تُمثِّل اختراقاً تركياً للأراضي السوريّة، وأخيراً لأنّه تبيّن من وراء المعركة ضد تنظيم الدولة الإسلاميّة، أنّ المعركة مع حزب الاتحاد الكردستاني هي الأساسية. أزيل أيّ غموضٍ شاب هذه النقطة عقب إطلاق عملية “غصن الزيتون” في 20 يناير/ كانون الثاني 2018 في مقاطعة عفرين، حيث يُستهدفُ حصراً حزب الاتحاد الديمقراطي.

تسليم فتح الله غولن
في الملف الثاني، يتعلقّ الأمر برهانات المعركة ضد حركة الخدمة التي يتزعمها فتح الله غولن الذي تطالب أنقرة الولايات المتحدة بتسليمه، وهي معركة لا تقلّ أهميّة بالنسبة للمسؤولين الأتراك، لأنّها تعبّر عن شرخ جذري داخل الإسلام السياسي التركي. وقد تبلورت العلاقات بين هذين الفاعلين، بعد الفوز الانتخابي الأوّل لحزب العدالة والتنمية عام 2002. وعلى امتداد عشر سنوات تقريباً، كان التكامل بين حركة الخدمة وحزب العدالة والتنميّة واضحاً: يوفّر الأوّل الكوادر السياسية التي كان الثاني بحاجتها، فيما يعيّن الأخير أنصار غولن في مواقع مسؤوليّة داخل جهاز الدولة.
بعد الهجمة القضائيّة التي تمّ شنّها ضدّ المؤسسة العسكريّة منذ عامي 2007 و2008، بلورت جماعة غولن مشروع تأمين السيطرة على قوّات الأمن. عندها، أُطلِق الإنذار في محيط أردوغان، واستقرّ انعدام الثقة تدريجياً. حاول “الغولنيون” إطاحة من كان رئيساً للوزراء في حينه، بالضغط عليه عبر عمليّة لمكافحة الفساد في ديسمبر/ كانون الأول 2013. إلا أنّ ذلك مثّل بداية معركة سياسيّة وقضائيّة، قادها أردوغان بفاعليّة عالية، خصوصا عبر إجراء مئات التغييرات ضمن الشرطة والجهاز القضائي. ومنذ ذلك الحين، لم تخف حدّة الردّ. الإدانة المستمرّة لـ “منظمة فتح الله غولن الإرهابيّة” والإجراءات المتكرّرة المسلّطة ضدّ أملاكه الاقتصادية والماليّة، والمحاكمات ضدّ المجموعات الإعلاميّة المرتبطة به، تدلُّ على أنّ للأمر أهميّة وجوديّة بالنسبة لأردوغان، وقد كان التطهير الذي تبع تاريخ 15 يوليو/ تموز 2016، تفاقماً لهذا التطوّر. لكنّ ذروة المعركة التي ربحها بحكم الأمر الواقع ستكون بالوصول إلى تسليم فتح الله غولن الذي يعيش في المنفى في الولايات المتحدة منذ عام 1999.
وهكذا، فإنّ الجمع بين هذين الملفين هو الذي يُخلِّفُ، في تركيا، تحدّياً كبيراً تجاه الولايات المتّحدة، إذ تُعتبرُ حليفاً غير مخلص، عندما تكون مصالح تركيا، المصوّرة على أنّها حيويّة، في الميزان.

لعبة تقاطع مزدوجة
باتت العلاقة بين واشنطن وأنقرة مشدودة جدّاً، بما يعكس مصالح متباعدةً وسوء فهمٍ. في ما يخصّ حزب العمّال الكردستاني ـ حزب الاتحاد الديمقراطي، ترفض الولايات المتّحدة الخلط

الذي تقوم به تركيا بين المنظمتين: وهي لَئِن قبلت تعريف حزب العمّال الكردستاني بالإرهابي، فإنّها ترفض ذلك بالنسبة لحزب الاتحاد الديمقراطي. إنّه نقاش مشوّه، يحيلُ إلى عجز ما يُسمّى المجتمع الدولي عن الوصول إلى تعريفٍ مشترك للإرهاب. على الرغم من ذلك، تبدو الولايات المتّحدة نفسها في وضعٍ غامض، يعكس إدارتها غير الواضحة للأزمة السوريّة.
وهكذا، فإنّ صورا نُشرت نهاية شهر مايو/ أيار 2016، تظهر فيها قواتٌ خاصّة أميركيّة، تحمل شارات وحدات حماية الشعب على بدلاتها، لم تترك مجالاً للشكّ بشأن المساعدة الفعليّة المقدّمة للمقاتلين الأكراد في حزب الاتحاد الديمقراطي. وهذا لم يمنع نائب الرئيس الأميركي السابق، جو بايدن، الذي كان في زيارة رسميّة إلى أنقرة في يوم بداية عمليّة “درع الفرات”، في تزامن مربك، من إعلان دعمه الواضح العمليّة التركيّة. وأيضاً، الاستخدام الكثيف لقاعدة إنجيرليك العسكرية (في تركيا) من الولايات المتّحدة لتنظيم قصف مواقع تنظيم الدولة الإسلاميّة.
بالنسبة لتركيا، يبقى الهدف الأساسي منع حزب الاتحاد الديمقراطي من الوصل بين الكانتونات الكرديّة في عين العرب (كوباني) والجزيرة، في الشمال الشرقي لسورية، وبين عفرين الواقعة في الشمال الغربي. من جهتها، فإنّ مواربات واشنطن كانت كبيرةً، إلى درجة جعلت الإدارات الأميركيّة تأسف مراراً لنقص الالتزام التركي إلى جانب تحالفها الذي شكّلته، واعتمدت في معاركها الميدانية ضد تنظيم الدولة الإسلاميّة على المليشيات الكرديّة، لعدم وجود بديل. لذلك، وعلى الرغم من ضغوط أردوغان وتصريحاته القوية، فمن المستبعد أن توقف الولايات المتّحدة دعمها الأكراد من حزب الاتحاد الديمقراطي، ببساطة إذ إنّهم يُشكّلون أداة إعادة تموقع في الميدان الدبلوماسي في إطار البحث عن حلّ للأزمة السوريّة. هذا مع العلم أنّ أنقرة تبقى ذات أهميّة إستراتيجيّة أكبر، بالنسبة لواشنطن، من أربيل أو القامشلي.
لا يتّسم مطلب تسليم فتح الله غولن بالأهميّة الوجوديّة نفسها، لكنّه يبقى نقطة تركيز كبيرة في تركيا. وإذا ما استمعنا إلى تأكيدات السلطات التركيّة التي تعتبر “منظمة فتح الله الإرهابية” خطراً أسوأ من خطر القوميين الأكراد، (وهذا ما يظهر، للمفاجأة، من مقابلات أجراها الكاتب مع دبلوماسيين أتراك رفيعي المستوى)، نفهم الأهميّة التي توليها للاستجابة إلى مطلبها. وهنا تُطرح مسألتان. الأولى تحديد درجة مسؤوليّة أعضاء حركة الخدمة في الانقلاب المُجهض في 15 يوليو/ تموز 2016، ما يعني الحذر من الاستنتاجات المتسرّعة، والقبول بوجود عدّة نقاط غير واضحة. والثانية الربط المُقام، بنوع من الاستخفاف، بين مصطلحي “انقلابيين” و”إرهابيين”. وفي ما يخصّ طلب التسليم، تترك السلطات في واشنطن، الحكم للقضاء، وهو أمر شرعي، ما يعني أنّ النظر في ملفات الاتّهام الكبيرة المقدّمة من أنقرة قد يأخذ بعض الوقت. من وجهة النظر هذه، سرعان ما خاب الارتياح الذي عبّر عنه أردوغان لانتخاب دونالد ترامب.
المسألة الحقيقية التي تُطرح إذاً هي العلاقة الإستراتيجيّة الممكنة بين البلدين على المدى المتوسّط.

الحفاظ على العلاقات مع القوى الغربيّة
من الضروري التخلّص من الصيغ الجاهزة التي تُصوِّرُ تدهور العلاقات مع الولايات المتّحدة على أنّه واقع يؤطر مجمل الصورة. في الواقع، الإرادة المؤكّدة لتركيا في إعادة صياغة علاقاتها مع العالم الخارجي هي التي تبدو مهمّة. بمعزلٍ عن نقاط التوتّر الحقيقيّة المذكورة سابقاً، وبالاقتصار على الفترة الحاليّة، يمكن التذكير بالأحداث الثلاثة الآتية:
* قبول أنقرة بوضع رادار الإنذار المبكّر للدرع الصاروخي لحلف شمال الأطلسي (الناتو)

على أراضيها، والذي أُقرّ في قمّة لشبونة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2010، ونُفّذ في سبتمبر/ أيلول 2011.
* نشر “الناتو”، بطلب من أنقرة، صواريخ باتريوت على الحدود التركيّة السوريّة في يناير/ كانون الثاني 2013.
* واقع أنّ تركيا، وبعد دقائق من إسقاط سلاح جوّها طائرة حربيّة روسيّة في 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، طلبت اجتماعاً لحلف الناتو، على مستوى السفراء، وهو ما استجابت له المنظّمة الأطلسيّة على الفور.
هذا التذكير، البعيد عن أن يكون شاملاً، يُبيِّنُ جيّداً أنّه لا نيّة لتركيا في القطع مع نظام تحالفاتها، لكنها الآن، بوعيها بإمكاناتها، تريد إبراز مصالحها بقوّة، علماً أنّها تعتبر دوماً أنّ روابطها مع واشنطن وبروكسل أهمّ من علاقاتها مع بغداد وطهران وإربيل، وحتى مع موسكو.
وإذا ما كان التوظيف القومي للخلافات مع الولايات المتّحدة، يُحفِّزُ التباعد، فإنّ الأخير يبقى محدوداً زمنياً. تمثّل تركيا ثاني الجيوش أهميّة في “الناتو” من حيث عدد جنودها، وهي تضع تحت تصرّفه قاعدة إنجرليك، حيث يتمّ تخزين الأسلحة النوويّة. كما أنّها تواصل السيطرة على المضائق، ولا تزال الدولة الوحيدة ذات الثقافة المسلمة، العضو في حلف الناتو. أمّا من وجهة نظر المصالح الغربيّة، فإنّ دور تركيا المحوري، بحكم الأمر الواقع، يجب أن يتمّ الحفاظ عليه. لا شكّ أنّ الثقة قد مُسّت، ولكن علينا أن نضع هذه العلاقات في نصابها.
ملف صواريخ “إس -400” الروسيّة المُوجّهة إلى تركيا، والتي بيعت في 29 ديسمبر/ كانون الأول 2017، يُظهر هذا التعاطي غير المستقر بين أنقرة والغرب. وعلى الرغم من ذلك، لا أحد يتخيّل أنّ تركيا تفكّر بمنطق القطيعة، فالضمانات الأمنية التي يوفّرها انتماؤها لحلف الناتو محدِّدة، كما أنّ أنقرة واعية تماماً أنّه لا يوجد بلد، أو مجموعة بلدان، يمكنها أن توفّر لها ما يُماثل ذلك. وهكذا، فإنّ التوقيع في باريس، في 5 يناير/ كانون الثاني 2018، على عقد دراسة تعريفيّة، تهدف إلى تطوير نظام صاروخي مضادّ للصواريخ بين المؤسستين التركيتين Aselsan وRoketsan والاتحاد الفرنسي الإيطالي Eurosam، يُمثِّلُ مؤشراً على رغبة تركيا في عدم قطع أيّ جسر مع حلفائها.

توتّرات ظرفيّة
يجب الأخذ بالاعتبار الاتهامات المتكرّرة الموجهة إلى الولايات المتحدة من الرئيس التركي، على أنّها أحد عناصر العلاقة مع هذا البلد، من دون الغرق في سيناريو كارثي مُعطِّل.
من جهة، تندرج تطوّرات السياسة الخارجية التركية ضمن بحث طويل عن هويّة

واضحة المعالم منذ خمسة عقود، لكنها باتت تندرج، أخيرا، أيضاً ضمن سياق قلب المفاهيم المرجعية (براديغم) التي تُهيكل العلاقات الدوليّة بشأن محاور جديدة. للمرّة الأولى في تاريخ البشريّة، تكون جميع شعوب الأرض فاعلة سياسياً. والآن، لم تعد القيم التي لا تزال القوى الغربية تعدّها عالميّة، قادرةً على فرض نفسها عسكريّاً، ولا سياسياً، ولا ثقافياً.
تركيا مثالٌ على “انقلاب العالم” هذا. ولقد رأينا ذلك على سبيل المثال في ربيع عام 2010، عند توقيع الاتفاق الثلاثي مع البرازيل وإيران، والذي جاء يطرح بديلاً عن مجموعة العقوبات الجديدة التي كان مجلس الأمن يتهيّأ للتصويت عليها ضدّ طهران. لم يكن هذا يعني بداية قطيعةٍ لأنقرة مع حلفائها الغربيين، وإنّما إرادة لدعم نظام دولي مغاير. والرفض الذي قوبلت به هذه المبادرة قاد أردوغان إلى التعبير، أكثر من مرة، عن رفضه نظاما دوليا تحكمه قوى مجلس الأمن الخمس.
أتت الصدمة العميقة التي يعيشها العالم العربي منذ نهاية عام 2010 لتذكّر ببعض البديهيات: تلاشى وهم أنقرة في أن تفرض نفسها زعيما إقليميا، خصوصا أنّ الدعوات المتكرّرة للرئيس التركي من أجل وحدة العالم الإسلامي ليست سوى مواقف وأوهام لا يجب أن تترك تأثيراً. فلا وجود لسياسة خارجيّة إسلاميّة مشتركة، ولا تزال المصالح الوطنيّة هي الغالبة.
إذا كانت السياسة الخارجيّة التركية تشهد تطوّراً لا جدال فيه، فإنّ هذه التطورات لا تُمثِّلُ قطيعة محقّقة. على الحلفاء التقليديين لتركيا تتبع ذلك باهتمام، ولكن عليهم، في الوقت نفسه، معرفة الفرق بين ما يمثّل موقفاً ظرفياً، غالباً ما يُستخدم بإفراط لأسباب تهمّ السياسة الداخليّة، ما يمكن أن يُصبح مؤطِّراً للعلاقات في السنوات الآتية.
العربي الجديد- ترجمة عن الفرنسية بديعة بوليلة

مقالات ذات صلة