عن تداعيات طوفان الأقصى

أنور الجمعاوي

حرير- سادت قناعةٌ لدى سلطات الاحتلال الإسرائيلي في السنوات الأخيرة بأنّ الأمر قد استتبّ لها في المنطقة، باعتبار أنّ مشروع التطبيع استهوى بعض الدول العربية، وحركة الاستيطان تمدّدت لتشمل جلّ الداخل الفلسطيني، في ظلّ صمت المجتمعين، العربي والدولي. وفي الأثناء، بدت الضفّة الغربية رهينة مشروع التنسيق الأمني مع إسرائيل، فيما ظلّ قطاع غزّة مكبّلاً بسطوة الحصار الشامل، المُطبق، المفروض عليه منذ سنة 2007. لكنّ ما حصل يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأوّل 2023 أربك الحسابات الإسرائيلية، وكلّف دولة الاحتلال خسائر غير مسبوقة في العدد والعُدّة. وأعاد صياغة موازين الصراع بين الطرفين، الفلسطيني والإسرائيلي، فقد شنّت كتائب عز الدين القسّام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) يومها هجوماً واسعاً مباغتاً، برّاً، وبحراً، وجوّاً، على المستوطنات المحاذية لقطاع غزّة، سمّته “طوفان الأقصى”. وأحدثت ثغرات عِدّة في جدار الفصل العنصري، تسرّب من خلالها مئات من مقاتليها إلى عمق الأراضي المحتلّة. وتمكّنوا من اقتحام مواقع عسكرية وأمنية ولوجستية استراتيجية، وألحقوا بإسرائيل خسائر فادحة في الأرواح، واستولوا على آليات عسكرية، وأسروا نحو مائتي رهينة من بين الجنود والمستوطنين. فيما قدّرت إحصائيات متواترة عدد القتلى في صفوف الجانب الإسرائيلي، بعد أيّام من عملية طوفان الأقصى بـ 1400 من العسكريين والمدنيين، فضلاً عن آلاف الجرحى. وبرّرت “حماس” قيامها بالعملية بأنّها “ردّة فعل على الانتهاكات الإسرائيلية في باحات المسجد الأقصى، واعتداء المستوطنين على المواطنين الفلسطينيين في القدس، والضفة، والداخل المحتل”. واعتبرت قيادات في دولة الاحتلال العملية ضربة قاسية لإسرائيل. بل كارثة، حلّت بها. وذهب رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، إلى أنّ “7 أكتوبر/ تشرين الأوّل 2023 يوم أسود في تاريخ إسرائيل”. والنّاظر في استتباعات الحدث يتبيّن أنّ له تداعيات عسكرية وسياسية عدّة.

من الناحية العسكرية، كشفت عملية طوفان الأقصى التي تعدّ من أكبر المواجهات الميدانية، المسلحة، المباشرة بين الفصائل الفلسطينية والقوّات الإسرائيلية إخفاق هذه الأخيرة في الاستخبار والاستطلاع، وفشلها في بلورة استراتيجية استباقية للتعامل مع هجوم مفاجئ من غزّة. فرغم أنّ القطاع واقع تحت أنظار أجهزة التجسّس الإسرائيلية، ويعاني ويلات حصار غاشم منذ سنوات، عجزت الآلة الاستعلامية لدولة الاحتلال عن اختراق الجهاز السرّي العملياتي لحركات المقاومة الفلسطينية عموماً، وكتائب عز الدين القسّام خصوصاً. وأثّر ذلك في جاهزية الجيش الإسرائيلي في التصدّي لهجوم 7 أكتوبر، فقد نفَذ فدائيون فلسطينيون، في وقت متزامن، إلى محاور عدّة في الحزام الاستيطاني المحاذي لغزّة، وتوغّلوا بعمق 40 كلم في الأراضي المحتلّة، ودخلوا 22 مستوطنة في وقت قياسي، وداهموا قواعد عسكرية، ونقاطاً أمنية وأبراج مراقبة إسرائيلية على طول الحدود مع قطاع غزّة. واستولوا على عتاد كثير، وقضوا على قيادات عسكرية وأمنية عليا وأسروا آخرين. ومهّدوا لذلك كله بضربات صاروخية مكثّفة طالت المستوطنات والعمق الإسرائيلي، وأربكت القبّة الحديدية التي وجدت صعوباتٍ كثيرة في التصدّي للكمّ الهائل من الصواريخ، والطائرات الشراعية، والمسيّرات الفلسطينية.

ومن ثمّة، نقلت المقاومة الفلسطينية، بقيادة “حماس”، المعركة على غير العادة إلى داخل مناطق النفوذ الإسرائيلي، وانتقلت من وضع الدفاع إلى وضع الهجوم، ونوّعت تكتيكاتها وأساليب هجماتها على الأهداف الإسرائيلية، وعدّدت جبهات المواجهة مع المحتلّ من خلال استهداف مستوطنات ونقاط عسكرية عدة في وقت واحد. وهو ما ساهم في إرباك الجيش الإسرائيلي، وتشتيت جهوده على نحوٍ جعله يجد صعوبات جمّة في احتواء عملية طوفان الأقصى والتصدّي لها على الأقلّ في أيّامها الثلاثة الأولى. وأدّى ذلك عملياً إلى خلْخلة صورة “جيش إسرائيل الذي لا يُقهر”، واستعادة توازن الردع، ولو نسبياً، بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، وكذا إلى تحرير العقل العسكري العربي عموماً، والفلسطيني خصوصاً، من ثقافة الهزيمة التي ورثها عن نكبة 1948 ونكسة 1967.

واللافت عقب عملية طوفان الأقصى، بحسب مراقبين، أنّ أعداداً كبيرة من المستوطنين قد تركوا جلّ المستوطنات الواقعة على الحدود مع قطاع غزّة، واتجهوا نحو الداخل، أو غادروا إسرائيل أصلاً، في ظلّ شيوع إحساس بعدم الأمان، وشعور بعدم اليقين بالمستقبل بينهم. وتأكّد ذلك مع إعلان مجلس وزاري إسرائيلي بقيادة نتنياهو (08/10/2023) اعتماد حالة الحرب ضدّ الفصائل الفلسطينية عموماً، وحركة حماس خصوصاً، وإطلاق عملية “السيوف الحديدية” الإسرائيلية ضدّ غزّة التي نعتها نتنياهو بـ”مدينة الشر”، ووعد بتحويلها إلى “جزر خَربة”، انتقاماً لمقتل إسرائيليين وأسر آخرين في عملية طوفان الأقصى، وللتغطية على فشل قوّاته في استباق هجوم المقاومة الفلسطينية والتصدّي له.

وبدا جليّاً، بحسب ملاحظين، أنّ الطرف الإسرائيلي انخرط في شنّ حرب انتقامية شعواء ضدّ سكان قطاع غزّة، في غيْر تمييزٍ بيْن المدنيين والمسلّحين، منتهجاً سياسة الأرض المحروقة التي أتت على الحجر والبشر في القطاع. وأدّى ذلك إلى سقوط آلاف الضحايا بين قتيل وجريح، معظمهم من النساء والأطفال والشيوخ العزّل. وبلغ الأمر بالحكومة الإسرائيلية درجة منع الغزّيين من الحصول على إمدادات الماء والغذاء والدواء والكهرباء. وأخبر ذلك، بحسب سياسيين وحقوقيين، بأنّ ردّة الفعل العسكري الإسرائيلية “تجاوزت حدود الدفاع عن النفس” إلى تسليط عقاب جماعي على المدنيين في غزّة، وهو ما يتعارض مع القانون الإنساني الدولي، ومع المواثيق الحقوقية والأممية المنظمّة لحالة الحرب والسلم.

ويرجّح خبراء بأنّ الغاية من تكثيف الغارات الجوية العشوائية على غزّة استعادة هيْبة الردع الإسرائيلية، ولو على حساب المدنيين، ودفعهم إلى الخروج قسرياً من القطاع تمهيداً لغزوه برّاً، بغرض استئصال القيادات الميدانية لـ”حماس”. ومع أنّ الاجتياح البرّي وارد، فإنّ نتائجه غير مأمونة لإسرائيل. ذلك أنّ الجناح العسكري للحركة يملك عمليّاً المعلومة والميدان، وهو خبير بقتال المدن والشوارع، وعلى دراية بتفاصيل الأرض في غزّة. وبناء عليه، ستكون الحرب البرّية في حال حدوثها طويلة وستستنزف الطرفين. وستكلّف إسرائيل موارد مالية، وبشرية، وعسكرية هائلة.

سياسياً، أربكت عملية طوفان الأقصى حكومة نتنياهو، وأحرجتها أمام الرأي العام الإسرائيلي، وجعلتها تجد صعوبة في تبرير الفشل المعلوماتي والاستخباري والدفاعي الواسع للقوات الإسرائيلية على حدود غزّة، وبدت غير قادرة على حماية المستوطنين، وعلى توفير الحدّ الأدنى من المعلومات للعائلات الإسرائيلية عن مصير المفقودين والرهائن الذين احتجزتهم “حماس”. وتعدّ ورقة الأسرى ورقة ضغط وازنة لدى الفصائل الفلسطينية، ومدار قلق الجمهور في إسرائيل. وزاد ذلك كله من وتيرة الانتقادات الموجّهة لنتنياهو، وحمّله جانبٌ من الشارع الإسرائيلي مسؤولية ما جرى، وجرى التلويح بمساءلته ومحاسبته عاجلاً أَم آجلاً. وهو ما دفعه إلى توسيع حزامه الحكومي، ليشمل حزب المعسكر الوطني بقيادة بيني غانتس، الذي لديه 14 عضواً في الكنيست. ويُتيح تشكيل “حكومة طوارئ” لنتنياهو أن يتخفّف نسبياً من آثار طوفان الأقصى، وأن يستجمع جهود اليمين والجماعات الدينية المتطرّفة لتحشيد الدعم الداخلي لسياساته، ويجنّبه، إلى حدّ ما، تحمّل مآلات الحرب على غزّة وحده.

كما أعاد اندلاع المواجهة بين إسرائيل وفصائل المقاومة القضية الفلسطينية إلى طاولة الاهتمام الدولي، وكشف ما يعانيه المدنيون من حصار، وتجويع، وقصف، وتهجير قسري، وقتل على الهوية في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي. وأحيت عملية طوفان الأقصى، بحسب مراقبين، الوعي الجمعي عربياً ودولياً بالقضية الفلسطينية، قضية تحرير وطني، ووحّدت الكلّ الفلسطيني في الداخل والخارج على ضرورة استعادة الحقوق المسلوبة، والتصدّي للانتهاكات الإسرائيلية المتواترة. وهبّ الشارع العربي والإسلامي والإنساني، بكثافة، للتنديد بالعدوان الإسرائيلي الغاشم على غزّة، ولتأييد الحقوق المشروعة للفلسطينيين. ودلّ ذلك على عمق الحاضنة الشعبية للقضية الفلسطينية عربياً ودولياً.

على صعيد آخر، أحرجت عملية طوفان الأقصى الأنظمة العربية المطبّعة، ودفعتها إلى مجاراة المزاج الشعبي في غضبة من الانتهاكات الإسرائيلية. وبدا أنّ مشروع التطبيع في مأزق، فقد ظهر أنّ القفز على المكوّن الفلسطيني، وبلورة تسوياتٍ ثنائية بيْن دولة الاحتلال وبلدان في الإقليم لا يضمن الأمان لإسرائيل.

ختاماً، جرّبت إسرائيل الحرب ضدّ غزّة مراراً (2006، 2008، 2012، 2014، 2021)، وحاصرت القطاع طويلاً (منذ 2007)، وتحصّنت بجدران عازلة، وأدمنت سياسات التوسّع الاستيطاني، والتمييز العنصري، والاعتقال التعسّفي، والقصف العشوائي ضدّ الفلسطينيين، وانتهكت مقدّساتهم، لكنّ ذلك كله لم يضمن لها الأمان، فالعنف يولّد العنف. والصراع هو صراع إرادات لا قوّة عتاد. لذلك أحْرى بالجانب الإسرائيلي ممارسة النقد الذاتي، والتحلّي بشيءٍ من الواقعية السياسية، وأن يجرّب الاستماع إلى مطالب الفلسطينيين المشروعة، وفي مقدّمتها حقّهم في تقرير المصير، وفي العودة إلى الأرض، وإقامة دولتهم المستقلّة، بناء على ما أقرّته مواثيق الأمم المتحدة. والغاية صناعة سلامٍ مستدام بين الطرفين. أمّا الحرب، فتستنزف الجانبين، وتزيد من تنامي الشعور بالكراهية تجاه إسرائيل والغرب في العالمين، العربي والإسلامي.

مقالات ذات صلة