من يحكم غزّة بعد نهاية الحرب؟

لميس أندوني

حرير- بداية، يجب التوضيح أن العنوان أعلاه سؤال استنكاري، بهدف فضح مخطّط تأطير الحرب على قطاع غزّة بوصفها حرباً دولية ضد بؤرة “إرهاب”، وبالتالي، توفير غطاء يبرّئ الكيان الإسرائيلي من جريمة الإبادة البشرية، ويمهد للمخطّط الأميركي الإسرائيلي لمستقبل القطاع المدمّر. وعليه، يجب أن لا ننجرّ إلى مثل هذا النقاش، إلا بهدف تعريف حقيقة “سؤال من يحكم غزة بعد الحرب”، بل نركّز على حرب الإبادة التي ترتكبها إسرائيل، التي كشفت للعالم حقيقة المشروع الكولونيالي الإحلالي الصهيوني. وفي الوقت نفسه، يجب متابعة السيناريوهات الأميركية المطروحة بدقّة، حتى نتمكن من مواجهة المخطّطات الإسرائيلية، فهي أبعد من تحديد مصير غزّة، وتتجاوزُها إلى مصيرنا جميعا.

ما يرشَح من معلومات بشأن النقاش في واشنطن بين الإدارة الأميركية وإسرائيل يدلّ، أولا، على أنّ هناك خطّة تتغير نتيجة صمود المقاومة، فمن ناحية تكتيكية، ولاستئصال حركة حماس، تشمل الخطة “تنظيف” شمال غزّة من أي وجود لـ”حماس”، وشنّ عملية واسعة في جنوب غزّة، تشمل قصف الباقي وتدمير الأنفاق، واغتيال قادة الحركة، وفي مقدّمتهم يحيى السنوار ومحمد الضيف وأبو عبيدة، كما ورد في صحيفة فايننشال تايمز البريطانية، واحتمال أبعد التوسّع إلى عدد أكبر من قادة “حماس” وكوادرها، وفقا لموقع تايمز أوف إسرائيل، الصهيوني. ويتضح من تصريحات وزير الخارجية الأميركية، أنتوني بلينكن، تأييد واشنطن العملية المقبلة، بشرط “تقليل الخسائر البشرية بين المدنيين الفلسطينيين”، أي إضافة ألف أو ألفين إلى عدد الضحايا قد يكون مقبولا إذا لم يشمل عشرات الآلاف، في احتقار كامل لحياة الفلسطينيين.

عودةً إلى تفاصيل السيناريوهات المقترحة، منها إبقاء السيطرة الأمنية لإسرائيل على القطاع، وتشكيل مجموعة للإشراف على “فترة انتقالية”. وهنا بيت القصيد، فالإدارة المقترحة لإدارة غزّة في “المرحلة الانتقالية” تشمل دولا عربية، وإن لا يعني ذلك أن هناك موافقة عربية، لكن واشنطن تضغط في هذا الاتجاه، بل هناك تصريحات حيال ذلك، إذ يمكّن دخول دول عربية في مثل هذا الترتيب إسرائيل من شنّ الاعتقالات وتنفيذ الإبعاد، والاغتيالات، تحت غطاء عربي، خصوصا وأن إسرائيل تصرّ على أن يبقى الأمن تحت سيطرة جيشها إلى أمدٍ غير محدود. ولم تعد أميركا تتحدّث عن التهجير القسري، بعد رفض الأردن ومصر هذه الحلول التي تخدم الرؤية الصهيونية في اقتلاع الفلسطينيين من وطنهم. وبرأيي، أنّ الضغط وإن خفّ سوف يُستأنف حين تجد واشنطن اللحظة المناسبة لذلك.

الملفت أن المجلس الانتقالي، كما تتحدّث مراكز أبحاث صهيونية في أميركا قريبة من الإدارة الأميركية، مثل معهد واشنطن، لا يشمل السلطة الفلسطينية في عضويته، ولكنها تتسلّم الدور “الإداري” الرئيسي بعد انتهاء المرحلة الانتقالية في غزّة تحت شروط إسرائيلية جديدة. فإسرائيل لا تقبل بعودة السلطة الفلسطينية، وتنتقد أداءها وعدم قدرتها على وقف العمليات المسلّحة، وعلى أداء سفراء فلسطين، خاصة في أوروبا والأمم المتحدة، الذين رفضوا إدانة “حماس”، بل يتحدثون بنفَسٍ تحرّري، بدرجات متفاوتة مع وسائل الإعلام، الغربية منها خصوصا.

وكان رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، قد ردّ على دعوة الرئيس الأميركي، جو بايدن، في مقاله الذي نشره أخيرا في صحيفة الواشنطن بوست، إلى تسليم قطاع غزّة للسلطة بعد إجراء إصلاحات عليها، بالقول إن إسرائيل “لم تدخل قطاع غزّة لتسلّمه إلى السلطة الفلسطينية..”. وشدّد على أن “السلطة الفلسطينية بشكلها الحالي غير قادرة على تحمّل المسؤولية في غزّة”. أمّا واشنطن، فترى أن السلطة بحاجة إلى “إعادة تأهيل” لإعادتها إلى قطاع غزّة، وهذا يعني وضع شروط جديدة عليها، أهمها وقف رواتب الأسرى ومخصّصات عائلات الشهداء، الذي رفضته السلطة ولا تستطيع قبوله.

لم يقبل موقف السلطة، على هزالته، العرض الأميركي، المتمثل في مشروع العودة إلى “استلام غزّة”، فتصريحات مسؤوليها بالموافقة على إدارة غزّة تشترط “أن يكون ذلك ضمن حل شامل لوضع غزّة والضفة الغربية بما فيها القدس” مرفوض أميركيا، والسلطة تعرف ذلك. فالمطلوب، أميركياً، تحت ضغط اللوبي الصهيوني، فصل الضفة الغربية عن القطاع سياسياً وجغرافياً، قبلت السلطة بإدارتها أو لم تقبل، وهو سيناريو مرفوض من الشعب الفلسطيني.

ما يحدث في غزّة من مذابح أمام نظر العالم رسالة إسرائيلية إلى كل أهل فلسطين، ويجب أن نتوقع سيناريو مماثلا في الضفة الغربية، مُرفَقاً بقمع. بل يجب ألّا نستبعد تنفيذ عمليات قتل منظّم وممنهج ضد فلسطينيي الداخل، تحت قيادة وزير الأمن المتطرّف في إجرامه إيتمار بن غفير، فهي حرب شاملة على الشعب الفلسطيني بأكمله، وعلى الدول العربية. وإن لم تعِ الدول العربية ذلك بعد، ففرض شروط جديدة على السلطة الفلسطينية “لتسلمها إدارة غزّة” بعد انتهاء إسرائيل من “أهدافها العسكرية” التي قد تأخذ زمنا طويلا في تنفيذها، يجعلها جسما إداريا للقطاعات الصحية والخدمية، إضافة إلى التعامل مع وكالة الغوث (أونروا)، أي لا تستطيع أن تمثّل فلسطين في المحافل الدولية وإقامة علاقات دولية أو عربية إلا بموافقة إسرائيل.

كل ما تقدّم لا يمكن تحقيقه من دون تعاون عربي، خصوصا وأن الدور المرسوم للسلطة الفلسطينية مؤجّل، لكن يبدو أنّ المطلوب منها عدم الاعتراض، وفي ذلك نهاية لها؛ فمن يحدّد مصير السلطة هو الشعب الفلسطيني، والحديث عن مستقبل غزّة يجب أن يكون ضمن رؤية تحرّرية تشارك في صياغتها. فمحاولة أميركا وإسرائيل إقصاء “حماس” وتصفيتها لن تقصُر على الحركة، لا بل على كل التيارات الفلسطينية. و”حماس” جزء من الشعب الفلسطيني، وإن كان هناك أي نقد أو انتقاد لها، فالذي يحقّ له ذلك هو هذا الشعب، وهو من يجب أن يختار من يمثله أو يحاسبه، وهذا من المسلّمات، وأي تعامل مع الخطاب الأميركي مشاركة في عملية تصفية القضية الفلسطينية.

حاليا، يجب ألا نستبق الأحداث، فصمود المقاومة هو العامل الأساس في تقرير مسار الوضع، والحاجة ماسّة كذلك إلى موقف عربي عملي، مثل تجميد اتفاقيات التطبيع إن لم يكن إلغاؤها، فشجاعة المقاومة وأداؤها المبهر لن يكون كافيا لإفشال المخطّطات الأميركية والإسرائيلية. والثمن الذي دفعه أهل غزّة ويدفعونه لا يمكن تجاوزه، فالسلام لا يأتي من الخضوع لشروط استعباد جديدة تبرّئ إسرائيل وأميركا والدول الغربية على مشاركتها أو تواطئها في حرب إبادة مستمرّة.

مقالات ذات صلة