أوروبا تتغير: المستقبل لليمين المتطرف؟

د. مدى الفاتح

حرير- قرار البرلمان النمساوي الأخير حظر ارتداء الحجاب للفتيات دون سن الرابعة عشرة في المدارس، لم يكن ليمرر بهذه السهولة لولا المناخ العام المحرض على المهاجرين. في كل مرة يطرح فيها سؤال الحجاب تبرز التبريرات عن احترام العلمانية وحياد الدولة، لكن من دون تقديم مادة مقنعة تخبرنا ما هو الضرر، الذي سيعود على الدولة في مشهد فتاة ترتدي حجابها، سواء كان ذلك بتشجيع من أسرتها، التي تود الحفاظ على عاداتها وتقاليدها، أو كان ذلك خيارا شخصيا لها؟

هذا بجانب أن هذه القرارات، التي كانت فرنسا قد ابتدعتها، تنافي مبدأ التنوع، الذي هو من أسس الديمقراطية المبنية على قبول الثقافات المغايرة، فهذه القرارات تقوم بشكل معاكس على مبدأ أنه يجب أن لا يكون هناك خلاف أو تباين واضح بين الناس. المفارقة الأهم هي أننا لا نتحدث عن بلاد قمع معروفة بالصوت الواحد، بل عن بلاد كانت تفتخر باحترام الحريات الشخصية وخيارات الأفراد مهما كانت شاذة، طالما أنها لا تتعارض مع مساحات الآخرين. هذه الدول، التي تقر قوانين منع الحجاب أو النقاب، والتي يذهب بعضها حد منع المايوه الإسلامي، «البوركيني»، تحترم في الوقت ذاته خيار مواطنيها بالتعري الكامل، بل توفر لهم مساحات لممارسة ما يسمى «العيش الطبيعي» الحر.

الفرق هو أن الحجاب صار يفسر في أوساط كثيرة كعلامة لرفض الاندماج، الكلمة المخادعة التي نرددها بلا وعي، والتي توجه كسهم حاد ضد من يعترض على أي قانون فيه تقييد لحرية العقيدة. المسلم المندمج المطلوب هو ذلك الذي يتخلى عن الزي الإسلامي، وهو الذي لا يمارس طقوس عباداته بشكل ظاهر، أو الذي لا يمارسها على الإطلاق، كما أنه ذلك، الذي لا تختلف عاداته الغذائية والاجتماعية عن غيره من الأوروبيين. لا أحد يقول هذا بشكل مباشر، لكن المتابع يعلم أن هذا هو مقصود الكلمة، وليس مجرد اكتساب اللغة، ولا مجرد السعي لإيجاد عمل، وإلا فلماذا يعبر سياسيون مثل مارين لوبان وفيليب دو فيلييه عن ضيقهما من مظاهر بسيطة كمطاعم ومجازر الحلال، التي لا يتعاملون معها كمجرد خيار غذائي، وإنما كتهديد؟ لم يعد من الممكن تجاهل هذا التغيير الأوروبي. يمكنك أن تقابل شبابا بعيدين عن الالتزام بالإسلام، وأقرب ما يكونون للثقافة والعادات الأوروبية، لكنهم مع ذلك يحسون بالتمييز ضدهم، فيكفي أن يكونوا متمسكين بتفصيل صغير من تفاصيل عاداتهم المحلية، حتى يتم ابتزازهم، بل أحيانا يتم استبعادهم من بعض المنح والوظائف لمجرد حملهم أسماء عربية. المندمج المرغوب فيه هو الذي لا يكتفي بأن يصبح أوروبيا، بل الذي يزايد حتى على الأوروبيين في انتمائهم لذلك الأفق المنغلق الرافض للآخر، وهو ما تفعله أسماء ذات أصول عربية تم إفساح المجال لها لتشغل مناصب سياسية ودستورية، وليتم إبرازها كمثال للنجاح. أسماء مثل جان مسيحة، أو حسام مسيحة، وفق اسمه الأصلي، الناشط اليميني، الذي بلغ به الانفعال حد التهديد في منشور له قبل أيام باعتقال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عقب نهاية فترته الرئاسية بتهمة الخيانة وبسبب فتحه أبواب البلاد لتدفقات المهاجرين.

أوروبا، التي عرفناها، والتي كانت قبلة للمضطهدين، أو لغيرهم من الراغبين في حياة كريمة، لم يعد لها وجود، فالذي يحصل اليوم هو أن هذه الدول، وبسبب الأزمات الاقتصادية التي تمر بها، وكذلك بسبب صعود اليمين المتطرف، صارت تتنافس في ما بينها على من يكون الأقسى على الأجانب. الحصول على الإقامة والجنسية، الذي كان يحتاج إلى بضع سنوات من الانتظار صار يتطلب، في أغلب الدول، أكثر من عشر سنوات، أما اللجوء السياسي فصار يقابل بالرفض في أحيان كثيرة، حتى إن كان طالبه مهددا بشكل حقيقي، أو قادما من بلد معروف بالأزمات السياسية والحروب. آخر من التحق بركب اليمين كانت بريطانيا، التي ظلت معروفة بالانفتاح واحتضان المهاجرين، والتي كانت حتى وقت قريب معروفة بالكرم في استقبال اللاجئين، وفي تقديم الإعانات الإنسانية لهم. بريطانيا كانت قد اكتسبت سمعة جيدة، حتى كانت المقصد الأهم للقادمين لأوروبا، الذين كانوا يحاولون الوصول إليها كخيار أفضل من غيرها. اليوم تجتهد بريطانيا، التي تشهد تقدما للمتطرف نايجل فراج وحزبه المثير للجدل «إصلاح المملكة المتحدة»، في ابتكار قوانين وتوليد تشريعات تقوم بالتضييق على المهاجرين، وتقلل من نسب قبول الواصلين الجديد. بريطانيا الجديدة تجتهد في إيجاد مسوغات ومبررات تساعد على إعادة طالبي الحماية إلى بلادهم، سواء بسبب أنهم وصلوا بشكل غير شرعي، أو بسبب أن بلادهم صارت آمنة كفاية، بما لا يمنع إعادتهم إليها.

تمددَ اليمين المتطرف خلال السنوات الماضية، لكنه مرشح للتمدد أكثر خلال الفترة المقبلة في أهم الدول الأوروبية. في بريطانيا، التي نجح اليمينيون في إخراجها من الاتحاد الأوروبي، ولكن أيضا في فرنسا، حيث يتألق الشاب جوردان بارديلا وحزبه «التجمع الوطني»، وفي ألمانيا، التي يقول مستشارها فريدريش ميرتس عن حكومته أنها آخر فرصة «للوسط». إيمانويل ماكرون، الذي كان تحالفه قد فشل في الانتخابات الأوروبية، والذي شهدت بلاده إلغاء للجمعية الوطنية، وتعاقبا لخمس رؤساء وزارة خلال وقت قصير، مضى للتحذير من دخول البلاد في حرب أهلية بسبب الاستقطاب الحاد. الحقيقة، التي لا مفر من مواجهتها، هي أن هذه الاتجاهات لم تعد شاذة، كما لم تعد مجرد آراء على هامش الحياة السياسية، بل إن هناك الملايين من المواطنين الأوروبيين، الذين باتوا مقتنعين بخطاب اليمين المتطرف. هذا هو ما يجعل من الصعب التحكم في حركة الانزياح نحو اليمين. بريطانيا، التي يشكل «المحافظون» السابقون فيها أساس حزب «الإصلاح» المتطرف تبدو مثالا جيدا، بتفضيل كثير من اليمينيين المعتدلين لخط الفكر الشعبوي. هكذا أصبح من الصعب منع التجمعات النازية أو الأحزاب العنصرية. ببساطة لأنه لا يمكن حرمان قطاع واسع من الناس من حرية التعبير عما يؤمنون به، وهو ما نجد صداه في ألمانيا نفسها، التي كانت الأكثر حساسية والأكثر عداء للأفكار، التي تذكر بماضيها النازي. أصبح من المعتاد اليوم أن ترى في المدن الألمانية تظاهرات لـ»جيل ألمانيا»، أحد أذرع حرب «البديل» المتطرف، وهي ترفع شعارات عنصرية منددة بوجود الأجانب أو داعية لترحيلهم. ما يقلق السياسيين الأوروبيين في هذا التيار الصاعد، بجانب أزمته مع المهاجرين ورفضه للتعدد الثقافي، هو كفر اليمين المتطرف بالاتحاد الأوروبي، حيث يرى كثير منهم في مؤسسة الاتحاد خصما على هويتهم الوطنية، حيث تجبر الدول المنضوية على إقرار اتفاقيات اقتصادية وسياسية واجتماعية قد لا تكون بالضرورة ممثلة للمصلحة الوطنية.

زاد الطين بلة انتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ووصول الإدارة الأكثر تطرفا ويمينية إلى سدة الحكم في الدولة الأكبر والأهم، هذه الإدارة تبدو مقتنعة بأنه، وعلى العكس مما يظن الناس، فإن تفكيك الاتحاد يمكنه أن يخدم الدول الأوروبية أكثر. يشير الأمريكيون، الذين لا يخفون دعمهم للأحزاب اليمينية، إلى موضوع التوافقات الصعبة بين دول الاتحاد الكثيرة، والتعقيدات، التي تصاحب اتخاذ أي قرار، كما يشيرون لوجهات النظر المتباينة بين مختلف الأعضاء، ما لا يسهل الخروج بموقف موحد.

مقالات ذات صلة