أوروبا وأوكرانيا: من مناطق النفوذ إلى الفضاءات

بيير لوي ريمون

حرير- يجمع الخبراء العسكريون الفرنسيون، على أن الوقاية خير من العلاج. هنا، ليست المسألة قائمة على بث القلق في النفوس، لكن في تدارك أخطاء استراتيجية ارتكبها السياسيون منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، التي أفرزت جوا من السكون المستدام من جراء إحلال السلام. لكن العسكريين استمروا دائما وأبدا في نقض هذا الطرح على أساس أن التوقي من حصول نزاعات جديدة، أمر واقع لا محالة ويجب إعداد العدة له دائما.

هنا، لا يدور الحديث حول سيناريوهات من قبيل احتمال غزو روسيا لفرنسا، أو لدول أوروبا الغربية الأخرى، بقدر ما يدور حول توفير القدرة والمعدات لشتى دول حلف شمال الأطلسي، حتى تتمكن من فرض نفسها كقوة ردع نافذة. وهنا أيضا لا نتحدث عن الردع النووي والمظلة النووية فحسب، التي قد توفرها فرنسا للدول المجاورة، ومنها ألمانيا، لكن نتحدث أساسا عن استعداد دول حلف الناتو في خوض نزاعات تقليدية، conventionals، إذا اقتضت الضرورة. كما يدور الحديث الآن عن الحرب السيبرانية التي من المعلوم أنها جارية على قدم وساق عبر قنوات شتى.

أجل، هذا هو الواقع، لكن أصواتا أخرى تتحدث بطريقة مختلفة، بما فيها أصوات غربية لا يمكن التشكيك في التزامها بالقيم الديمقراطية، وحق الشعوب في تقرير مصيرها. من هذه الأصوات، صوت الفيلسوف الفرنسي الشهير لوك فيري (التي ترجمت له عدة مصنفات إلى اللغة العربية). صوت معروف عندنا بخبرته في تفكيك المفاهيم الفلسفية، على ضوء الواقع الخالي من التجريد.. واقع أن أوكرانيا كانت روسية سابقا، والملاحظ أيضا أن التاريخ يرسم فضاءات.. وليست كل الفضاءات فضاءاتنا، نحن الأوروبيين.. وهو أمر روجت له الإدارة الامريكية لحسابها. وهنا يجب الخوض في مسألة أساسية من العلاقات الدولية، مسألة لا نتحدث عنها بما يكفي.. مسألة توزيع الفضاءات التي تسبق قضية مناطق النفوذ.

أوكرانيا ليست عضوا في منظمة حلف شمال الأطلسي، وبإرادة غربية أصلا. ودائما بقيت مطروحة أسباب هرولة القوى الغربية الرئيسية (فرنسا أساسا، أما بريطانيا وألمانيا فبدرجة أقل) إلى التلويح بدخول حرب، من دون تسمية الأسماء بمسمياتها، علما منها أنها لا تستطيع، لا تستطيع قانونا أولا، فليس هناك مجال لتفعيل البند 35 لحلف شمال الأطلسي، الذي يقضي برد باقي الأعضاء على قوة معتدية شريطة أن يكون المعتدى عليه عضوا من أعضاء الحلف، ثم، لا تستطيع ذلك من باب الجاهزية أيضا. هذا الكلام، نسمعه بواضح العبارة من الغالبية الساحقة للجنرالات الفرنسيين، الجنرالات أنفسهم الذين يدعون إلى إعداد العدة لمواجهة حالات لا تحمد عقباها (مستبعدين كل الاستبعاد في الوقت نفسه خوض حرب ضد روسيا).

قصة أوروبا مع أوكرانيا قصة تأرجح.. تأرجح أوروبا بين إعلائها صوت الديمقراطية والحريات الفردية والعامة من ناحية، ومن ناحية أخرى عدم قدرتها على التسليم بانخراطها في فضاء دون غيره. هنا، يجدر بنا الحديث فعلا عن فضاءات أكثر من مناطق نفوذ، لأن مناطق النفوذ لا تتخطى إطار التأثير والمؤثرين عبر القوتين الناعمة والصلبة. صحيح أننا ما زلنا نتحرك ضمن هذا الإطار، وهو إطار مرشح أن يدوم طويلا، لكنه أيضا إطار ينبغي تجاوزه. أما الفضاء، فهو يؤرخ لواقع.. كما يؤرخه التاريخ، تاريخ الأراضي وتاريخ المنظومات أيضا. أوكرانيا ليست عضوا في حلف شمال الأطلسي.. والقوى الأوروبية قررت ذلك، لكن بدلا من الانخراط في مسلسل التفاوض، فضلت المراهنة على فرضيات كأن يمتد الصراع الأوكراني إلى دول البلطيق، لكن التأرجحات والفرضيات لا تصنع سياسية.

مقالات ذات صلة