إنقاذ السودان من اللامعقول

عمر العمر

حرير- تماماً، على نسق مسرحية الأيرلندي صمويل بيكيت “في انتظار غودو”، يعايش السودانيون طوال أكثر من سنتَيْن مرحلةً مسقاةً بالحزن، بالتشرّد والإحباط، باليأس والاكتئاب. كما جاءت المسرحية الشهيرة أيقونة في مسرح العبث أو اللامعقول، فإن النظام الراهن في السودان فصلٌ فريدٌ في العبث السياسي. كما “في انتظار غودو” لدينا بطلان مُعدمان إلّا من البؤس. لكنّهما ليسا وحدهما من ينتظران المجهول، فالشعب السوداني بأسره يترقّب مجيء من يخلّصه من الحزن والبؤس والتشرّد. كذلك الشعب يجسّد في انقسامه بطلَي مسرحية بيكيت: فلاديمير واستراغون في حال انتظارهما المفتوح على الآمال والسراب. لا يهم ما إذا كان فلاديمير واستراغون السودانيان هما بطلا الحرب العبثية، أو أنصار الحرب ودعاة السلام. فالثابت في المسرح السوداني هو مشهد التعاسة العبثي. تعاسة عبثية على الصعيد العسكري، وعبثية تعيسة في الأداء السياسي. كلّهم “في انتظار غودو”. لا فارق في ما إذا كان الانتصار أو الهزيمة، حلّاً سياسياً أو خياراً عسكرياً. كلّهم في انتظار دونالد ترامب، علّه يكون غودو!

***

رغم مباهاة ترامب بإطفاء نار ثماني حروب، إلا أن الرهان عليه في الوضع السوداني يبدو فصلاً آخر من العبث السياسي. بغضّ النظر عن مدى صدقية ادّعاء ترامب في تحقيق السلام، فإن المشهد السوداني أعمق تعقيداً من بؤر الحرائق الأخرى. فكرة النار هنا أوسع تدحرجاً في مساحة اجتماعية مشحونة بالتفكّك والتحلّل الاجتماعي حدّ الخسران. أبعد من ذلك تأزماً، أن اللاعبين في المسرح السوداني أكثر تشقّقاً وأقلّ نضجاً، وأحدُّ استقطاباً على المستوى الفكري، وأوسع تشرذماً من الناحية التنظيمية. هذه عناصر لا تزيد فقط في حبكة العبث، بل تجعل مهمّة الاستيعاب، ومن ثمّ التفكيك، عبئاً يتطلّب صبراً. هذا ليس من ضمن سجايا الكاوبوي السياسي على نحو عام، وبالنسبة إلى ترامب بصفة خاصة. فالتجربة الأميركية المعاصرة تؤكّد تعجّل الحلول غير الناجعة والحاسمة كما في العراق وفلسطين ولبنان وسورية وأوكرانيا. فالأزمة الوطنية هناك لا تزال مفتوحةً على المجهول. عبر التاريخ، أميركا مشعلة حروب وليست صانعة سلام. في تجارب الشعوب أميركا صانعة أنظمة عسكرية واستبدادية، وليست بانيةَ نُظم ديمقراطية.

***

ممّا يزيد الأزمة السودانية استحكاماً، هبوط نبض الوفاق الوطني في أدنى معدّلاته في الوقت الراهن. هو في الأصل أحد مظاهر وهن الدولة. بل لم يكن أصلاً عنصراً شاخصاً في الثقافة السياسية السودانية. إن لم يتسم بالغياب عنها فهو من علل تجارب الديمقراطية المميتة. فالمنظومة الديمقراطية السودانية ظلّت نفسها أسيرة العصبوية. لا فارق بين عصبوية القبيلة أو الطائفة أو الحزب… كلّها مظلّات مركّبة بعضها فوق بعض من أجل تأمين احتكار السلطة والامتيازات. هذا الاستقطاب ضيّق الأفق والمصالح كاد يجعل الدولة رهينة عائلات محدّدة أو قبائل محدودة، حين تتّسع الرؤية قليلاً، أو تنافس محموم بين حزبَيْن. هذا الاهتراء السياسي يطيل انتظار المُخلِّص غودو مفتوحاً على أفقٍ لا مدى له ولا سقف. حرب العبث الراهنة جعلت الارتداد إلى تلك الدولة غير المعافاة مهمّة معقَّدةً إن لم تكن عصية. فهذه الحرب مشحونة بكل أمراض المجتمع السياسي السوداني وتناقضاته.

***

تلك الاختلالات المزمنة، والمُستحدَثة تحت دخان حرب العبث، أحدثت فجوات تكفي لتعميق مسارب التدخّلات الخارجية وزيادة عددها. فالتدخّلات الخارجية في مسرح العبث السوداني ظلّت ترتبط بالقوى القابضة على السلطة في الخرطوم أكثر من ارتباطها بالقوى السياسية. هذه اللعبة الخطرة بدأت مع أول حكومة عقب الاستقلال، ممّا أدّى إلى أول انقلاب عسكري، حتى أحدث انقلاب أفضى إلى الحرب الراهنة. من سوء قدر حكومة ثورة ديسمبر الأولى (2018) أنها لم ترث علل نظام الإنقاذ فقط، بل كذلك تراكم ذلك الإرث من التشابك غير المتكافئ مع الخارج. ذلك الوضع ضاعف أثقال الاستقطاب الحادّ. حتى حينما رُفِع الستار عن المشهد الأول من العرض السياسي الجديد في ديسمبر المجيد، فكان الفصل عبثياً، على نسق “في انتظار غودو”، بطلاه أنصار الثورة وأعداء التغيير. فالفترة السابقة للانقلاب لم تكن في الواقع ضرباً من المهادنة بقدر ما كانت مرحلةَ ترّقب للانفجار أو الانهيار. المفارقة وقوعهما معاً في الوقت نفسه. تلك مهزلة عبثية ربّما تتجاوز خيال الكاتب الإيرلندي صمويل بيكيت نفسه.

***

مسألة الدولة والدين ظلت محوراً ملتهباً في المسرح السياسي. إذ لعبت الطائفية دوراً حيوياً في بناء الدولة. ثم أضاف الإسلام السياسي ثقلاً إلى قواعد الطائفية. لكن لا يمكن إنكار انحسار المساحة الطائفية أمام تقدم تيارات الوعي. كما انكسر ظهر الإسلام السياسي بعد انكشاف حجم فساده في ظلّ الإنقاذ. التدخّلات الخارجية تعمّق حالياً الحفر لجهة تجريد الدولة من الدين. هذا توجّه معاكس ربّما، مع المناداة بتجريد المليشيا من السلاح، فالدولة راعية توليد، وتربية المليشيا غير قادرة على نزع السلاح، بينما هي مطالبة بالخروج عن عباءة الدين. إنها معادلة لا يمكن حلّها من دون تدخّل خارجي أو اقتناع كل أطراف الاقتتال في الداخل بإلقاء السلاح واستبدال العمل السياسي بالعمل العسكري. هذا أقصر الطرق إلى إنهاء العبث المُدمِّر في المسرح السوداني.

***

انتظار الأمل من حكومة الأمل هو ذروة العبث. هو تجسيد اللامعقول في منتهى تجلّياته. ظرف تشكيل الحكومة وقوامها لا يحرّضان على ترقّب كسر خشبة مسرح العبث. على النقيض، يغرق مشهد الحوار بين رئيس الحكومة وأحد وزرائه المشاهدين في اللاجدوى واللاأمل. لا خيار أمامنا تجاه الإدارة الحكومية برمّتها غير السخرية والتهكم.

مقالات ذات صلة