محمد صلاح ينسف أحلام المطبّعين

لميس أندوني

حرير- منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل قبل 43 عاما، كان، ولا يزال، أحد أهداف المشروع الصهيوني خرق الوعي العربي عبر أوسع أبوابه، وهي مصر. لكن التطبيع بقي “باردا” ولم تنتج العقود الأربعة الماضية قبولا شعبيا بالاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين، ولم تصبح الدولة الصهيونية صديقا لمصر وشعبها. بل إن ما تمّ هو التركيز على الاتفاقيات الأمنية لمنع التسلل عبر الحدود “ولضمان أمن إسرائيل”، أي أن معاهدة كامب ديفيد وضعت مصر العروبة تحت شروط حماية أمن دولة تأسّست باقتلاع شعب من موطنه، مقابل انسحاب إسرائيل من سيناء التي احتلتها بالقوة في عام 1967، فاعتبرت أطراف رسمية الاتفاقية نصرا مصريا، وإن على حساب إخراج مصر بتاريخها وثقلها، من المعادلة الجيو سياسية الاستراتيجية في المنطقة، لصالح إسرائيل ومشروعها الاستيطاني الكولونيالي التوسّعي.

لا أعرف ما دار في رأس الشاب المجنّد محمد صلاح، ذي الـ22 عاما، حين أطلق النار على الجنود الإسرائيليين مُرديا ثلاثة منهم، لكنه، كما يقول أقرانه، كان يرى أفراد الجيش الإسرائيلي على الجانب الآخر مدجّجين بأسلحة متطوّرة، ويشاهد ويسمع عن الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين في مختلف أنحاء فلسطين، وعلى الجيران الفلسطينيين في قطاع غزّة المحاصر، وهو يقف عاجزا، كونه عسكريا ينتمي إلى جيش دولةٍ مهمة لا يخيف الطرف الآخر، فيما هو مكبّل بقيود اتفاقيةٍ قد لا يعرف أيا من بنودها.

ليس ما فعله محمد صلاح غريبا، إنما الغريب وغير الطبيعي أن تستهتر إسرائيل بالجيش المصري وكل الجيوش العربية، وتعتبر أن حدود مهمة هذه الجيوش حماية كيانها، وهذا هو الواقع، شاء الجنود أو لم يشاءوا، وهو واقع مزرٍ، يعبّر عن شلل أنظمة بكاملها. اختار محمد تاريخا؛ هو ذكرى صدمة (وليس نكسة) العرب في حرب عام 1967، فيعيدنا إلى صدمة انهيار الجيوش وقصف الطائرات المقاتلة المصرية وهي رابضة على أرض المطار، واحتلال الصهاينة القدس وموجات جديدة من النازحين واللاجئين، ليؤكّد رفض هذا الواقع ومآلاته.

فعلُ جندي واحد لا يُقرّب الفلسطينيين من التحرير ولا يعيد الاعتبار إلى مصر والعالم العربي، غير أنه أيقظ أمل صحوة في النفوس. ما نراه من فرح في الشارع العربي هو في معظمه صرخة في وجه الأنظمة المتخاذلة، ووضاعة أبنائها المثقفين “التطبيعيين”، فنحن هنا لا نفرح بفقدان شاب في مقتبل عمره حياته، بل ما نراه هو تعبير عن تكريم واحترام تضحيته بروحه، فلا كلمات كافية لتواسي قلب أمه ولوعة أبيه. وما التكتيم والتضييق الرسمي على مراسم دفنه، وحتى على مظاهر الحزن، إلا جزء من الخنوع، فيما تنتفض أصواتٌ معارضة وتزجّ آلافا من مواطنيها في السجون والمعتقلات، فلا كبرياء أمام جيش صهيوني عنصري لا يحترم لا الفلسطينيين ولا أي عربي، وكأن كبرياء الأنظمة لا يستفزّه غير صوت مظلوم أو مطالب بالحق.

فالمطلوب هو الصمت والاستسلام وربط دول شعوب عربية ومستقبلها بالاقتصاد الإسرائيلي فيما يجرى تقديم التسهيلات للسواح والمستثمرين الإسرائيليين، وفي بعض الدول، يجرى استقبال المستوطنين، بالرغم من رفض المؤسّسات الدولية، وحتى الغرب، بقبول أي شرعية له. ونرى احتفالات بالنكبة الفلسطينية على أنها استقلال دولة إسرائيل، هو خنوع قد يتفاوت بدرجاته ووقاحته، لكنه مشينٌ ومهين، فاستقبال الإسرائيليين أثمن من دم الأطفال الفلسطينيين، فالطفل محمد التميمي يسفك دمه وهو في حضن أبيه من دون أن يزعج ذلك المحتفين “باستقلال إسرائيل”.

أصبح الكلام أعلاه في نظر المطبّعين والمستسلمين مجرد كلام عاطفي إنشائي لا معنى له، لكن جزءا مما نراه هو انحسار الفكر التحرّري، وغياب وتشويه للوعي، فالقبول بالهزائم يزرع اليأس في النفوس، ويغلّب المصالح الشخصية الضيقة على المبادئ، ويطفئ جذوة التعاطف الإنساني، ومنها تتجذّر الهزيمة، وتتمادى إسرائيل في الإسراع في القضاء على الهوية الفلسطينية وعلى الأرض الفلسطينية، ويزداد احتقارها الأنظمة، بل والشعوب العربية، إلى أن نجد أنفسنا جميعا نعمل رسميا لديها.

استخدام تخاذل السلطة الفلسطينية، وهي مدانة، مبرّرا ومسهلا للتطبيع، لا يشفع لمطبّع أو مستسلم، ولا لأبواق الإعلام والسياسة، التي تتشدق بعلاقاتها وزياراتها المتبادلة مع إسرائيل، وخصوصا التي ظهرت أخيرا في الإمارات، وقلة قليلة في الكويت على رغم عمق الثقافة العروبية لدى شعبها، وذلك كله باسم سلام كاذب وتمثلا بما يدّعيه هؤلاء بقيم الحضارة والتسامح.

ربما يكون سبب بروز أصوات نافرة في الإمارات بعدها عن فلسطين، وتأثير الاتفاقيات الإبراهيمية الذي تجاوز المعاهدات التطبيعية، بما في ذلك كامب ديفيد، بمسافاتٍ، إلى قبول بالرواية الصهيونية، الذي لا نراه حتى عند أنظمة ارتبطت باتفاقيات مع إسرائيل، وقد يكون ذلك الاندفاع من أصوات إعلامية ضمن مشروع مبرمج لإحباط تأثير مقاومة الشعب الفلسطيني وصموده، وهذا هو خطره الأكبر، ليس لأنه قد ينجح في هزيمة المقاومة الفلسطينية، بل بتشويه وعي الشعب العربي وموقفه تجاه القضية الفلسطينية.

ما يريده هؤلاء من التقارب الخليجي – الإسرائيلي هو ردّة فعل على خوف الخليج من التمدّد الإيراني، وهذا فيه ليس مبالغة فقط، وإنما كثير من النفاق لإسرائيل وأميركا، وبخاصة بعد إبرام التفاهمات السعودية – الإيرانية، وحتى قبل ذلك، فالرعب من إيران، صحيحا كان أو مبالغا فيه، لا يدفع إلى مدح إسرائيل ونكران النضال والتاريخ الفلسطينيين، ولا تذلّل سفير الإمارات في دولة الاحتلال للحاخام الأكبر عند عدوان إسرائيل على غزّة في مايو/ أيار 2021.

ما نشهده هو نتيجة سنوات عملت فيها مراكز الأبحاث الأميركية، وبخاصة اليمينية منها، على التأثير على نخب خليجية وعربية، تنبهر بالاهتمام الغربي بها، وتُشعرها بتفوّقها، وهي النخب نفسها التي تسعى إلى السلطة أو البقاء فيها وإلى تكديس الثروات، وكان ذلك أكثر وضوحا في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، لكن تلك المراكز عجزت عن التأثير على مواطنٍ فقيرٍ اسمُه محمد صلاح، فقد لا يذهب من مثله إلى جامعات عريقة مثل هارفارد، لكنه لا يفقد الرؤية التي تميز بين الظالم والمظلوم.

لذا تُمنع عائلته من التعبير عن فجيعتها، لأن ذلك يتعارض مع دموع الإسرائيليين على ضحاياهم، وإن كنا نفهم حزن أي أبٍ أو أم على ابنه أو ابنته، لكن ما نراه أن هناك “دموع حضارة” مسموحة، ودموعا أقلّ قيمة، على الأنظمة المطبّعة منعها بل ومعاقبة من يعبّر عن حزنه ويعبّر عن ألم الفقد، وهنا نلخّص المعادلة: لا يمكن أن تستمر هيمنة إسرائيل من دون قمع الأنظمة شعوبها، وعقاب تمرّد محمد صلاح هو حرمان أهله من حقّ إقامة مراسم الدفن والعزاء، وحظر أي تعاطف مع ما صنع، ولذا تمتلئ السجون.

مقالات ذات صلة