غزة بعد قرار مجلس الأمن… وصاية واحتلال وتهجير وانفصال

عبد الحميد صيام

حرير- سيسجل التاريخ أن القرار 2803 الذي اعتمد مساء الإثنين الماضي، وتبنى خطة ترامب للسلام في غزة، من أخطر وأعقد وأخبث القرارات التي اعتمدها مجلس الأمن في تاريخه. يذكرني فقط بالقرار 687 (1991) الذي اعتمد بعد حرب تحرير الكويت وفرض عقوبات على العراق شملت نزع أسلحة الدمار الشامل غير الموجودة أصلا، وسمي يومها “أم القرارات”.

وأود في قراءتي للقرار ألآ أقلل من أهمية الاحتياجات الآنية لغزة، خاصة وقف إطلاق النار، وإدخال المساعدات الإنسانية بكميات كبيرة وفتح جميع المعابر. لكن هذه الإيجابيات الثلات، لم تلتزم بها إسرائيل منذ بداية وقف إطلاق النار بتاريخ 10 أكتوبر. فلا القتل توقف ولا المساعدات ارتقت لمستوى الاحتياجات، ولا فتحت جميع المعابر. ولا يمر يوم، من دون أن تكون هناك هجومات مسلحة وتدمير للمباني واستهداف للغزيين بأطيافهم وأعمارهم كافة، لكن العالم أدار وجهه عن غزة، واعتبر أن الحرب انتهت ومسلسل القتل أغلق واستئناف الحياة الطبيعية بدأ وطوابير الجوعى اختفى.

كل هذا غير صحيح لكن العالم المنافق يريد أن يطهر ضميره من عقدة المشاركة في حرب الإبادة، فيقنع نفسه بأن غزة تعيش مرحلة التعافي، لكن الحقيقة ووصفها تأتي من اليونسيف، يقول ريكاردو بيريس المتحدث باسم اليونيسف، معلقا على قرار مجلس الأمن “نحن بحاجة إلى رؤية المزيد من الممرات الإنسانية المفتوحة. نحتاج إلى رؤية كميات أكبر من المساعدات تصل، المزيد من الشاحنات، والمزيد من الممرات، والمزيد من الوصول”. هذا القرار يجب أن يقرأ بتفاصيله، خاصة نقطته السابعة. لقد تعامل القرار مع الفلسطينيين على أنهم قاصرون، ولا يستطيعون أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، فلا دور للسلطة الفلسطينية، إلا بعد إصلاحها وتأهيلها، والشرطة الفلسطينية يمكن أن تلعب دورا في مساعدة القوة الدولية بعد تدريب أفرادها والتحقق من ولائهم. ولا نعرف متى تصلح السلطة نفسها والشرطة تنهي تدريباتها. لقد أنشأ القرار مجلس وصاية، سمي زورا وبهتانا بـ”مجلس سلام”، وتعمل تحت إمرته حكومة انتقالية تنفذ خطة ترامب، كما تعمل تحت إمرته قوات استقرار لضبط الأمن. وتكون لهذا المجلس شخصية اعتبارية محمية بالقانون الدولي، أي لا أحد يتدخل في عملها أو يسائلها إن ارتكبت جرائم. وكما قال السفير الروسي، فاسيلي نيبينزيا، في مجلس الأمن: “القرار يسمح لمجلس السلام وقوة الاستقرار الدولية بالتصرف باستقلالية مطلقة، دون أي اعتبار لموقف أو رأي السلطة الفلسطينية، ما قد يرسخ فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية”.

تحقيق الأهداف التي عجزت إسرائيل عن تحقيقها

قوات الأمن التي تعمل بالتعاون مع مصر وإسرائيل، مسؤوليتها تفكيك كل شبكات المقاومة ونزع السلاح وتدمير البنى التحتية للمقاومة، وهذا ما نص عليه القرار حتى لا يظل أحد يشكك بخطورة القرار: “تعمل القوة الدولية مع إسرائيل ومصر… إلى جانب قوة الشرطة الفلسطينية، التي سبق تدريب أفرادها وفرزهم، للمساعدة في تأمين المناطق الحدودية؛ وتحقيق استقرار البيئة الأمنية في غزة، من خلال ضمان عملية إخلاء قطاع غزة من السلاح، بما في ذلك تدمير ومنع إعادة بناء البنية التحتية العسكرية والإرهابية والهجومية في القطاع، وكذلك سحب أسلحة الجماعات المسلحة غير الحكومية من الخدمة بشكل دائم”. هذا هو الهدف الحقيقي: تحقيق أهداف إسرائيل التي عجزت عن تحقيقها بالحرب، بعد حرب إبادة استمرت سنتين كاملتين، وبهذا القرار سيتم تحقيق هزيمة المقاومة ونزع سلاحها وتدمير بناها ومراقبة الحدود، عن طريق قوة دولية تشرف على إنشائها إسرائيل بالتعاون مع الولايات المتحدة. وماذا عن الانسحاب الإسرائيلي من القطاع؟ يجيب القرار، أن انسحاب جيش الدفاع الإسرائيلي من غزة يتم فقط استنادا إلى معايير ومعالم محددة وأطر زمنية مرتبطة بنزع السلاح، يتم الاتفاق عليها بين جيش الدفاع الإسرائيلي والقوة الدولية، والجهات الضامنة والولايات المتحدة، باستثناء وجود طوق أمني سيستمر إلى أن تصبح غزة في مأمن تام من عودة ظهور أي تهديد إرهابي. ومن الذي يحدد أن غزة أصبحت آمنة كي ينسحب جيس الدفاع إلا إسرائيل نفسها؟ وحتى لو انسحب فإنه سيبقي على طوق أمني. أي أن الانسحاب الشامل من غزة حلم بعيد غير مرتبط بجدول زمني، ولا بمعايير محددة، بل بتقييم أمريكي إسرائيلي حول اختفاء أي مظهر من مظاهر التهديد الأمني وهو لا يتحقق أبدا، فبالنسبة لإسرائيل ولادة طفل جديد تهديد أمني ورفع العلم الفلسطيني تهديد أمني والنشيد الوطني تهديد أمني. إنه ترتيب دائم للقطاع لإنهاء أي إمكانية لمقاومة الاحتلال الدائم والتهجير وملاحقة المقاومين وتعطيل إعادة البناء، بحجة أن الأمن غير مستتب، وأن تفكيك شبكات المقاومة غير مكتمل. غزة الآن تدخل مرحلة الوصاية الكولونيالية، إنه وعد بلفور جديد هذه المرة عن طريق بلفور الأمريكي وختم دولي وعربي وإسلامي.

مجلس الأمن يتنازل عن دوره

ومن خصائص هذا القرار الغريب من نوعه، أنه قد يكون أول قرار صدر عن مجلس الأمن وتخلى مجلس الأمن عن صلاحياته لكيان غريب. فلا دور للأمم المتحدة في تشكيل قوة الاستقرار في غزة، ولا دور لها في مراقبة وقف إطلاق النار، ولا دور لها في إعادة الإعمار. حتى دورها الإنساني تقزّم ليصبح واحدا من بين مجموعات أخرى وضعت على قدم المساواة مع المنظمة الدولية مثل، الصليب الأحمر والهلال الأحمر والمنظمات المتعاونة. من هي هذه المنظمات المتعاونة؟ ألا تفتح المجال لتسرب العديد من المنظمات المشبوهة مثل “مؤسسة غزة الإنسانية” التي أنشأتها الولايات المتحدة مصيدة لقتل المواطنين. ثم من يحدد قبول أو عدم قبول المنظمات المتعاونة؟

أتفهم مواقف بعض الدول العربية والإسلامية المطبعة، والتي في طريقها للتطبيع بتأييد مطلق لخطة ترامب. لكن كيف لي أن أتفهم موقف الجزائر، التي صوتت مع القرار، رغم علمها أنه لا يصل إلى الحد الأدنى من الحقوق الوطنية الفلسطينية. فهل نص على تحقيق قيام الدولة الفلسطينية المستقلة المترابطة؟ وهل أشار إلى وقف الاستيطان وعنف المستوطنين؟ وهل أعطى دورا لممثلي الشعب الفلسطيني وقياداته الشريفة، الحريصة على مشروعه الوطني؟ وهل أكد وحدة غزة والضفة الغربية؟ صحيح أن السفير الجزائري كرر أنه يتحدث باسم المجموعة العربية، وأن جزءا منها شارك في اجتماعات شرم الشيخ، وتعلق بأذيال ترامب لينقذهم من حرجهم أمام شعوبهم، لكن هل كان السفير مضطرا أن يكيل المديح لترامب، الذي وقف في الكنيست يتفاخر بكميات الأسلحة التي قدمها لإسرائيل، وخاضت بها حرب الإبادة، ما يعني أنه لولا الدعم الأمريكي بالسلاح والمال والفيتو، لما تمكنت إسرائيل من مواصلة الحرب لسنتين كاملتين. السلطة الفلسطينية أيضا رحبت بالقرار، لأنها تنتظر أن تلعب دورا في قطاع غزة، لكن هذا الدور مؤجل ولا علاقة له بالسيادة وتوحيد القطاع مع الضفة، بل له علاقة بحفظ الأمن لصالح إسرائيل، مكررة تجربتها الفظيعة في التنسيق الأمني مع الكيان في الضفة الغربية.

وأخيرا، هذا القرار أزاح الضغط الدولي عن إسرائيل وأعاد الغالبية الساحقة من المتضامنين إلى بيوتهم، ولم يعد أحد يتذكر المحكمة الجنائية الدولية، أو محكمة العدل الدولية أو جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها في قطاع غزة. بدأت إسرائيل تفك من عزلتها من جهة، ومن جهة أخرى توسع عدوانها على لبنان وسوريا وقريبا ستستأنف الحرب على إيران. أما ما يجري في الضفة الغربية وإطلاق أيادي المستوطنين، فسيتفاقم بعد أن تفرغ الجيش والأمن والطبقة السياسية لتعزيز ضم ما تبقى من الضفة الغربية. وهل إشارة القرار إلى مشروع ترامب للسلام عام 2020، أو ما سمي بصفقة القرن عبثا؟

لا نراهن على دول عربية أو إسلامية أو أوروبية. لقد خبرناهم كلهم ووصلنا إلى قناعة أن الشعب الفلسطيني هو الوحيد القادر على حماية وجوده وحقوقه ومشروعه الوطني في فلسطين.

مقالات ذات صلة