في تبييض أحمد الشرع

جلبير الأشقر

حرير- الدعوة لزيارة البيت الأبيض هي قمة التبييض السياسي، في المنظور الغربي على الأقل. وها أن أحمد الشرع ـ الذي تحوّل بين ليلة وضحاها من أبو محمد الجولاني، أمير «هيئة تحرير الشام»، «جبهة النصرة» سابقاً، المنشقة عن تنظيم «القاعدة»، إلى أحمد الشرع، رئيس الجمهورية العربية السورية، وخلع بدلة الجهادي باللون الكاكي ليلبس الطقم الغربي وربطة العنق الملازمة له ـ ها أن أحمد الشرع ذاته قد زار البيت الأبيض، حيث استقبله دونالد ترامب من وراء مكتبه، وكأنه يتفحصه قبل منحه شهادة رضاه. وقد سبق الزيارة بثلاثة أيام فقط رفع اسم الشرع-الجولاني من قائمة «الإرهابيين» المطلوبين لدى الولايات المتحدة، مع الوعد بمكافأة قدرها عشرة ملايين من الدولارات لمن يأتي به حياً أو ميتاً كما في أفلام الوسترن. وسبحان من يغيّر ولا يتغيّر!

وقد جاءت زيارة الشرع للبيت الأبيض بعد أقل من شهر من زيارة أخرى أكثر إثارة للعجب بعد، وإن لم تحظَ باهتمام مماثل في الإعلام الغربي، ألا وهي زيارة الشرع لموسكو ولقاؤه مع فلاديمير بوتين في الكرملين. وما هو أعجب في زيارة الشرع لروسيا أنه حاربها لسنوات عديدة، خلافاً للولايات المتحدة التي مدّ لها يد العون، لا سيما في مواجهة «داعش»، من خلال علاقاته الوثيقة بتركيا الأطلسية. والحال أن الشرع لم يتردد في مصافحة الرجل الذي أسهم أكبر إسهام في تدمير سوريا وقتل شعبها دفاعاً عن حكم بشار الأسد، الذي كان الشرع يرى فيه عدوه اللدود وقد وفّرت له موسكو ملاذاً مريحاً وآمناً في روسيا.

ويندرج في سلسلة العجائب ذاتها توافق الدول والمحاور الإقليمية المتنافسة على التودّد للشرع: تركيا، ودول الخليج، وسواها. وحدها إيران لم تنضم إلى الجوقة، ولا شك في أن المنطق الطائفي الذي يتحكم بنهجها كما بنهج «هيئة تحرير الشام» هو العقبة الرئيسية في هذا الصدد. أما إسرائيل، فهي تُعامِل الحكم الجديد في دمشق مثلما تُعامِل الحكم اللبناني: بالضغط العسكري بغية تحقيق مرماها. فهي تبغي انضمام البلدين، سوريا ولبنان، إلى جوقة «التطبيع» العربية، بشرطين: الصدام مع «حزب الله» في لبنان من خلال السعي لنزع سلاحه، وإقرار دمشق بخسارة هضبة الجولان التي احتلّتها الدولة الصهيونية في عام 1967 وضمّتها إلى أراضيها في عام 1981، وهو الضمّ الذي اعترف به دونالد ترامب رسمياً باسم الولايات المتحدة أثناء رئاسته الأولى.

كل هذا بينما لا يزال الوضع السوري على كفّ عفريت: سلطة جديدة لا تحوز على ما يكفي من القوة للسيطرة على البلاد، بل لا تستطيع السيطرة على الجماعات المسلحة التي استندت إليها طوال سنين؛ ومذابح طائفية عزّزت إيمان الأقليات الطائفية السورية بأن لا أمان لها إزاء الحكم الجديد سوى إذا انتزعت استقلال مناطقها بقوة السلاح وحمتها على غرار ما حققه الكُرد في الشمال الشرقي السوري؛ وحكمٌ في دمشق هو عكس ما كانت سوريا في حاجة إليه، إذ لا يمت إلى الحياد الطائفي والديمقراطية والنزاهة بصلة، بل يسير على خطى الشراكة العائلية التي ميّزت حكم آل الأسد والمخلوف.

فما هو سر تكاثر العجائب التي وصفنا أعلاه منذ أن حلّ أحمد الشرع محلّ بشار الأسد في القصر الرئاسي الذي بناه والد الأخير؟ إنه بكل بساطة إسقاط كل طرف لرغباته على الحكم الجديد، وانتهازية هذا الحكم التي لا حدود لها. والحقيقة أن النظام العربي السائد، بكافة أطرافه، كان قد فعل كل ما بوسعه لتحويل الثورة السورية من انتفاضة شعبية ديمقراطية، تشكّل خطراً عليه، إلى حرب جهادية طائفية ضد حكم آل الأسد، تتناسب مع «طبائع الاستبداد» التي تسود المنطقة العربية. وكلهم باتوا يخشون أن تتحول سوريا ما بعد الأسدية إلى أسوأ مما كانت عليه خلال سنوات الحرب الأهلية، أي أن تتأجج نار بؤرة تصدير الإرهاب الجهادي التي اشتعلت في سوريا منذ أكثر من عشر سنوات. وتشاطرهم الخشية ذاتها الدول الغربية مثلما تشاطرها روسيا، بل وحتى الصين التي لا تزال متحفظة إزاء الحكم السوري الجديد وقد اشترطت عليه أن يتخلص من المقاتلين الجهاديين الآتين من أقاليم الصين المسلمة.

ثم، وكما هي العادة في العلاقات الدولية، تسود اعتبارات المصلحة الاقتصادية: فإن سوق إعادة إعمار سوريا سوق ضخمة، يفوق حجمها بكثير حجم سوق إعادة إعمار قطاع غزة التي أثارت رغبات ترامب «السياحية». وقد قدّر البنك الدولي سوق الإعمار السورية بما يتراوح بين 140 ملياراً و340 ملياراً من الدولارات، معتبراً أن الكلفة الأرجح ستكون بين التقديرين وتبلغ ما يناهز 215 مليار دولار. وفي حين استثمرت الدول الخليجية العربية ولا زالت تستثمر مليارات الدولارات في شراء العقارات وتمويل المشاريع السياحية في مصر، على الأخص، فإنها تتطلّع لتحوّل سوريا إلى مجال استثمار مماثل، مثلما بدأت تفعل في زمن بشار الأسد قبل عام 2011.

وبمجرّد قول «عقارات»، يخطر دونالد ترامب وعائلته وأعوانه تلقائياً على البال، حيث إنها إدارة أمريكية تتميّز بطغيان المضاربة العقارية في تحديد سلوكها العام. وقد أدرك الشرع الأمر، إذ لوّح بترحيبه بتشييد «برج ترامب» في دمشق عندما كانت المساعي جارية لترتيب لقاء بينه والرئيس الأمريكي عند زيارة هذا الأخير للمملكة السعودية في أيار/ مايو الماضي. ولا شك في أن أفق الاستفادة من سوق الإعمار السورية، على الرغم من أنها لا تزال افتراضية للغاية، له دور هام في موقف الرئيس الأمريكي. والأمر ذاته ينطبق على الدول الأوروبية، ومنها فرنسا التي يسعى رئيسها إيمانويل ماكرون إلى تقليد أسلافه في محاولة اقتطاع حصة من الكعكة الاقتصادية العربية (جذب دولارات النفط والغاز، الحصول على عقود البناء، تصدير الأسلحة، إلخ) بانتهاج سياسة أقرب إلى الإجماع العربي الرسمي مما هي سياسة واشنطن. وقد أسرع ماكرون لاستقبال الشرع في قصر الإليزيه قبل لقاء الزعيم السوري بترامب في الرياض.

أخيراً، ثمة رغبة مشتركة لدى الحكام الأوروبيين في ممالأة أقصى اليمين في بلدانهم بالسعي للتخلّص من اللاجئين السوريين. فيرون في إعلان ثقتهم بالحكم الجديد في دمشق تمهيداً ضرورياً لترحيل اللاجئين إلى سوريا بحجة أنها باتت آمنة، ولو تناقض هذا الزعم مع الواقع بصورة فاقعة. وقد أعلن المستشار الألماني فريدريش ميرتس في الأسبوع الماضي أنه دعا الشرع لزيارته في برلين كي يفحص معه شروط إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، وهو الذي كان قد انتقد بشدّة قرار المستشارة السابقة أنجيلا ميركل في فتح أبواب ألمانيا أمام اللاجئين قبل عشر سنوات.

هذه الأسباب مجتمعة هي التي تفسّر المفارقة العجيبة التي تجعل شتى الدول تتسابق على تبييض الشرع والتودّد لحكم جماعة كانت تُصنَّف بالإرهابية قبل أشهر. وهو منظر لائق جداً بحال السياسة العالمية في زمننا «الترامبي».

مقالات ذات صلة