السودان غزة أخرى… فلماذا غابت البواكي؟

إحسان الفقيه

حرير- مأساة غزة كانت صرخة مدوية في الضمير العربي والعالمي، انتفضت لها شعوب الأرض، وأضحت قضية العصر وميزان العدل والشرف الذي تتمايز به الصفوف.

مدينة الفاشر السودانية، التي تُحرق ويُباد أهلها ويقتلون بالرصاص والتجويع، ليست مأساتها أقل بشاعة مما حدث في غزة، فكل من يدقق المتابعة للأحداث الجارية في الفاشر وأزمة السودان بشكل عام، سيقف على أهوال تشيب لها الرؤوس.

ولا أبالغ إن قلت إن ما يشهده الشعب السوداني من قتل وتجويع وانتهاك للأعراض وسلب ونهب للأموال وإجبار على النزوح على أيدي عصابات «الدعم السريع»، ربما يفوق ما حدث في غزة، وليس هذا تهوينا مما حدث ويحدث في القطاع المنكوب.

في السودان يموت أهلها بإذلال وقهر يجعل المقتول يلفظ أنفاسه وهو يودع حيرته في ذلك الذي يشاركه في الدين واللغة والجغرافيا واستحل دماءه، فلم تُبق عصابات الدعم شيئًا للصهاينة، فما معنى أن يُطلب من مواطن ضعيف أن يدفن نفسه في القبر، وما معنى أن تُعلق النساء على الأشجار حتى الموت، وما معنى أن يلهو السفاح بضحيته قبل الموت ويجعل من موته تسلية لزملائه، على غرار ما فعله الصرب في شعب البوسنة والهرسك.

الفاشر والسودان، غزة أخرى، ولكن لا بواكي لها، بما يفرض التساؤل حول تفسير ذلك الغياب الضمائري عن السودان، ما الذي جعل مأساتها بعيدة إلى هذا الحد عن الوجدان العربي والإسلامي والعالمي مع أن الدم واحد، لماذا لم يهتز العالم لما يحدث في السودان كما اهتز لأحداث غزة؟

أول أسباب غياب معظم الشعوب عن القضية السودانية خلافًا لقضية غزة، هو الرمزية الغائبة، فغزة والقضية الفلسطينية بشكل عام، قضية مركزية مرتبطة بالمقدسات أولًا، وبالمظلومية التاريخية لهذا الشعب ثانيًا، وبعد خارجي واضح ثالثا، بما يجعل التعاطف مع تلك القضية واجبًا أخلاقيًا لا يحتاج إلى تبرير.

وأما السودان فهو حكاية داخلية معقدة، التبست على كثير من الشعوب، فمعظم التصنيفات لما يجري في السودان تدور حول مفهوم الحرب الأهلية، فليست هناك إذًا سردية واضحة لدى معظم الجماهير عن الضحية والجلاد، فحين فقد الصراع رمزيته فقد قدرته على تحريك الوجدان، وبناء على ذلك تم تحييد الضمير العربي والعالمي نوعًا ما أمام هذه المأساة.

ويأتي الإعلام كسبب من أهم الأسباب التي غيّبت قضية السودان عن بؤرة اهتمام الشعوب، فنحن في عصر من لا تُرى صورة مأساته فلا وجود له.

في غزة نجح الإعلام الداخلي في نقل الصورة للعالم، وأحدث طفرة في موقف الشعوب الغارقة في أسر رواية إعلامها الرسمي، الذي يكون غالبا متواطئًا أو داعمًا للكيان الإسرائيلي.

أما في السودان، فهناك تعتيم إعلامي شديد فرضته قوات «الدعم السريع» على نقل الصورة، وفي المقابل هناك ضعف شديد في الجانب الإعلامي للجيش الوطني السوداني.

وأما الإعلام العربي فأقل ما يقال في موقفه هو الإهمال والتخاذل، فحين يتناول الأحداث في السودان يغرق الأسماع بعبارات ومفردات باردة أمثال «اشتباكات»، «أوضاع إنسانية حرجة»، «أطراف الصراع»، وهكذا، لكنه لا يغوص في عمق الحدث، فلا أسماء ولا وجوه ولا قصص، واختُزلِت المأساة في أرقام بينما يذوب الشعب السوداني في غبار النسيان.

بعض المنابر الإعلامية تتخذ مواقف باهتة بدعوى الحياد، بينما البعض الآخر منها يخشى الاصطدام بالأطراف الداعمة المؤججة للحرب، فالحديث عن السودان في الإعلام العربي محكوم بالحذر الشديد لا بالتضامن.

ومن هذه الأسباب، كوْن الحرب في السودان متشعبة المصالح العربية والإقليمية، فمن الدول من ينظر إليه من زاوية الأمن المائي، ومنها من ينظر للسودان من جهة الاستقرار الحدودي، ومنها من ينظر إليها من زاوية النفوذ الاستثماري والعسكري، ومنها من يتحرك تحت ضغط الجغرافيا والمخاوف الأمنية، وكلٌّ يبكي على ليلاه.

لم تتفق نظرة دول المحيط العربي والإقليمي للسودان، فمنهم من يجد نفسه بعيدا عن أثر الصراع فيلتزم الصمت إلا من بعض التصريحات الرسمية الداعية إلى لغة الحوار وإعلاء مصلحة الشعب السوداني، ومنهم من يقدم الدعم الصريح لقوات الدعم السريع وفق أجندات تتقاطع مع المصالح الصهيونية والإمبريالية العالمية، ومنهم من يقدم الدعم على استحياء للجيش الوطني السوداني بما لا يكفي لوضع حد لعربدة الدعم السريع، وذلك استجابة للضغوط الدولية والإقليمية.

انطلاقا من اختلاف الموقف العربي يتحرك الإعلام المحلي لهذه الدول إزاء الملف السوداني، والنتيجة أن معظم أجزاء الصورة في السودان غير واضحة للشعوب، ولو أنك أجريت استطلاعًا عشوائيًا لوجدت أن الغالبية العظمى من الجماهير يتجهون لتوصيف الأحداث على أنها مجرد حرب أهلية تؤثر على الشعب السوداني.

ومن هذه الأسباب، الإنهاك العاطفي والاستهلاك الوجداني الذي أصاب الشعوب جراء صور المآسي التي تطالعها الشعوب العربية في سوريا واليمن وليبيا وفلسطين، فصار الناس يتعاملون مع أي ألم جديد بشيء من الحذر النفسي، فهم قد تعبوا ولم يعد لديهم متسع للتفاعل والتعاطي مع مآسي أخرى جديدة، لكن الخوف الشديد أن يتحول ذلك الشعور إلى حالة من التبلد الأخلاقي.

ومن هذه الأسباب كذلك، أن السودان كان دائمًا على هامش الوعي العربي العام، فقلما كان له حضور في الثقافة أو الإعلام أو المناهج، على الرغم من انتمائه العربي والإسلامي والإفريقي، وعلى الرغم من أن هذا البلد يمكن أن يكون جسرًا بين العرب والأفارقة، فكأنه يوصف بأنه البلد البعيد، هذا التهميش نتج عنه عزلة وجدانية جعلت أزماته تبدو وكأنها خارج إطار الجغرافيا.

إننا في هذا الموطن لا نقلل من حجم المأساة في غزة ونحن نضعها مع مأساة السودان في موضع مقارنة، فالدم كله واحد، لكننا ندافع هنا عن القيم والموازين في ذلك الامتحان الأخلاقي الذي تمر به الأمة والضمير العالمي.

إذًا، نحن نحتاج إلى هبّة قوية على غرار ما كان إزاء مأساة غزة، السودان بحاجة إلى إعلام عربي حر يفضح الجرائم ويسمي الأسماء بمسمياتها ويضع النقاط على الحروف في طبيعة الصراع ومتعلقاته الخارجية.

المطلوب ليس فقط التعاطف العاطفي مع مأساة السودان، بل ينبغي إعادة الاعتبار للسودان كقضية عربية وإنسانية وأخلاقية، لا بد من حراك ثقافي يعزز ربط هذا البلد المنسي بجسد الأمة، وتضامن شعبي يعيد له مكانته في وجدان الأمة، وهذا ما تستطيعه الجماهير التي لا نلزمها بأن تقوم بما ينبغي على الأنظمة الحاكمة القيام به.

مقالات ذات صلة