
حرب السودان والانتقام من الشعب
د. الشفيع سعيد
حرير- إذا وقفت ذات مرة على شرفة التاريخ وبدأت تبحث في سيرة المغول والتتار في القرن الثالث عشر الميلادي، فحتما سيمر عليك اسم جنكيز خان، مؤسس الإمبراطورية المغولية وأشهر زعمائها، والذي قاد ما عرف بالغزو المغولي مؤملا بسط سيطرته على العالم. ثم سيمر عليك اسم حفيده، هولاكو، مؤسس الدولة الإلخانية المغولية، والذي دمرت جيوشه الدولة العباسية وعاصمتها بغداد في العام 1258م.
وقطعا ستتذكر أن جيوش المغول والتتار اشتهرت بالوحشية والبربرية والقسوة الشديدة، يدمرون المدن التي تقاومهم بعد أن يذبحوا سكانها بالكامل، ومع ذلك، وللمفارقة، يعاملون أي مدينة تستسلم لهم طواعية معاملة حسنة وطيبة. وفور بلوغك هذه اللحظة من تداعي ذاكرة التاريخ، ستتداخل عندك صور الماضي مع الحاضر، وصور جحافل المغول والتتار مع جحافل الدعم السريع وهي تجتاح الفاشر، قبل أن ترى بوضوح قوات الدعم السريع وهي تسير اليوم على ذات خطى جيوش المغول والتتار، ولكن مع تعديل رئيسي جعل قسوتها وبربريتها ووحشيتها تفوق ما اتسمت به تلك الجيوش. فهي تدمر المدينة وتذبح سكانها في الحالتين، إذا استسلمت أو إذا قاومت، كما شهدنا في مدن الجنينة والخرطوم ومدني وبارا وقرى الجزيرة وغيرها، وكما شهد العالم بالأمس في مدينة الفاشر.
لكن اجتياح قوات الدعم السريع لمدينة الفاشر، وما مارسته فيها من فظائع وجرائم يشيب لها الولدان، لم يكن مفاجئا أو مباغتا أو بدون مقدمات، بل كان متوقعا ومنتظراً في أي لحظة، منذ أن أحكم الدعم السريع حصاره للمدينة بدءا من مايو/أيار 2024، وبالنظر إلى ما ظلت تمارسه هذه القوات في كل المناطق والمدن التي اجتاحتها خلال هذه الحرب الكريهة. لذلك، يتعجب المرء كثيرا من ردة الفعل المشبعة بحالة الهيستيريا، والتشنج والمناداة بإعلان التعبئة العامة، ودعوة الشباب للاستنفار وفتح مراكز تدريب في مختلف الولايات، وكأن حرب الخامس عشر من أبريل 2023، بدأت وانطلقت رصاصتها الأولى مع اجتياح الفاشر أول أمس. أعتقد أن ردة الفعل هذه، هي مجرد دثار يغطي حالة العجز المتمكنة، والتوهان والارتباك في تبني الخيارات الصحيحة. أما بالنسبة لسدنة نظام الإنقاذ وأزلامه، فهي محاولة خبيثة لإنكار حقيقة أن هذا المسخ المفترس هو حنظلة الشجرة السامة التي غرسها نظامهم البائد في تربة هذا الوطن، وظل يسمدها بثقافة العنف والإفلات من العقاب لأجل أن تقمع انتفاضات حركات دارفور، وتحميه من غضب الشعب. وردة الفعل هذه، هي أيضا تكتيك آخر يستخدمه هؤلاء السدنة، على أمل أن يستعيدوا، وبقوة الدم المسفوح، ما انتزعته منهم ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018م. لذلك، ورغم هذه الضربة السياسية التي ضربت هؤلاء وأولئك، فإن نظام الإنقاذ البائد وحاضنته السياسية، هم من يتحمل المسؤولية الأخلاقية والتاريخية والقانونية المباشرة في صناعة هذا المسخ المفترس وما ارتكبه من جرائم بشعة.
أما اجتياح الفاشر وما صاحبه من جرائم وانتهاكات مروعة، فهو ليس مجرد تطور ميداني لصراع الجنرالات، وإنما هو حدث محوري يحمل، بالإضافة إلى تبعاته العسكرية، تداعيات سياسية واجتماعية عميقة ومحزنة، ويكشف عن جروح الإثنية والعنصرية الغائرة، ويَخِزُ الضمير الإقليمي والدولي الذي عجز عن منع الكارثة، ويضع مستقبل السلام في السودان على المحك. والاجتياح هو تجسيد آخر لحقيقة أن حرب السودان لم تعد مجرد صراع عسكري في ساحات القتال، وإنما تحولت إلى آلة دمار وعنف منهجي وذاتية التغذية بفعل ظاهرة الانتقام المتبادل بين أطراف النزاع، والتي تتخذ طابعًا هوياتيًا وعِرقيًا مريعًا، حيث يتم استهداف السكان المدنيين على أساس انتمائهم العرقي أو القبلي. والكارثة هنا، أن هذه الآلة لا تكتفي بتحطيم الحاضر وبنيته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بل تحفر قبرًا لمستقبل البلاد، حيث من المستحيل بناء دولة مستقرة على ركام من الكراهية والعنصرية والرغبة في الانتقام. فالوطن الذي تطحنه رحى الثأر والانتقام لا يبقي ولا يذر، وأي اتفاقية سلام مستقبلية ستكون هشة للغاية، ومجرد هدنة مؤقتة لاستعادة الأنفاس قبل جولة جديدة من العنف، مادامت الأطراف الموقعة عليها تحمل في دواخلها أحقادًا عميقة وجراحًا لم تندمل.
والآن، بعد اجتياح الفاشر وذبح سكانها، هل تبخرت فرص الحل السياسي عبر الحوار والتفاوض؟ هذا السؤال يطرح إشكالية أخلاقية وسياسية عميقة. فمن الناحية الأخلاقية والمبدئية، كيف يمكن الحوار والتفاوض مع طرف ديدنه ذبح السكان المدنيين وارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية؟ ولكن من الناحية البراغماتية، الحرب لن تقف إلا بالتفاوض، ولا يمكن تجاهل قوة عسكرية تتحكم فعلياً بأجزاء كبيرة من البلاد وتتمتع بنفوذ إقليمي وربما دولي، ولم يتم هزيمتها وتحطيمها! إن مستقبل السودان يعتمد على قدرة أبنائه وقادة العالم على التعلم من دروس الماضي. والتجارب التاريخية توضح أن التفاوض مع أطراف متهمة بانتهاكات جسيمة ليس أمراً جديداً. فوقف الحرب لن يتحقق بانتصار عسكري ولا بتنازل أخلاقي ولا بصفقات سياسية تتجاهل معاناة الضحايا وجذور الأزمة، بل بالتفاوض والحوار المدعومين بتفعيل آليات العدالة وعدم منح الحصانات حتى تتم محاسبة جميع مرتكبي الجرائم والانتهاكات، بغض النظر عن انتماءاتهم، وذلك عبر محاكم وطنية كفؤة وذات مصداقية، أو عبر المحكمة الجنائية الدولية. والعدالة ليست عقبة في طريق السلام، بل هي جسر العبور إليه. حوار وتفاوض يخاطبان جذور الأزمة حتى نبني دولة لكل السودانيين على أساس نظام عادل يضمن حقوقهم جميعا ويحمي كرامتهم.
إن اجتياح الفاشر هو جرس إنذار أخير ينبهنا بأن حرب السودان صارت أزمة وجودية تهدد نسيج الوطن نفسه. والسودانيون جميعا، قوى مدنية وسياسية وعسكرية، أفرادا وجماعات، مدعوون لمراجعة قناعاتهم وإعادة تنظيم صفوفهم حتى يضعوا حدا لهذا الجنون. والمجتمع الدولي كذلك، مدعو لأن يصحو ضميره ويتحول من دور المتفرج إلى الفاعل الحقيقي لإسكات البنادق وبآليات ملموسة وفعالة.



