
أمن مَن ولمَن؟
مصطفى البرغوثي
حرير- تتمحور الرواية الإسرائيلية من الألف إلى الياء حول موضوع الأمن. ويستخدم الأمن مبرّراً لشن الحروب، وتنفيذ الاغتيالات، وقصف البلدان، وشن الاعتقالات عشرات الآلاف، ولاحتلال الأراضي وترسيخ نظام الأبارتهايد الأسوأ في تاريخ البشرية.
تقدّم إسرائيل نفسها الضحية الدائمة، المعرّضة للخطر، وتبرّر اعتداءاتها على الآخرين باعتبارها أنشطة وقائية لحماية نفسها من مخاطر قائمة أو محتملة. ولا يقتصر تقديم مقولة أولوية الأمن الإسرائيلي على كل المصالح، على إسرائيل وحدها، بل صارت ركيزة سياسة الحكومات الغربية في معالجتها الأوضاع في المنطقة.
يقوم مفهوم الأمن الإسرائيلي على عقيدة عنصرية، طالما ميّزت سلوك الأنظمة والدول الاستعمارية، وجوهرها أن الأمن مطلوبٌ ومستحقٌّ للمستعمِر والمحتل، والمضطهِد، ولكنه ليس مشروعاً للمضَطهدين والمستعمَرين، فحماية أمن الجنود الغزاة الفرنسيين في الجزائر كان مبرّراً لقتل ملايين من شهداء الجزائر، وتوفير الأمن للإمبرياليين الأميركيين كان مبرّراً لاستعمال قنابل النابالم والمواد المسرطنة ضد الشعب الفيتنامي، وبعد ذلك العراقي. ولكنه في الحالة الإسرائيلية تجاوز كل المعايير والحدود، بنزع إنسانية الفلسطينيين بوصفهم بشراً، واعتبار كل الفلسطينيين في قطاع غزّة، بمن فيهم الأطفال، أهدافاً مشروعة، بل وصل الأمر بالرئيس الأميركي ترامب أن يصف السبعين ألف شهيد فلسطيني في غزّة، بمن فيهم عشرون ألف طفل، بأنهم “حماس”.
ولا يخلو بيان سياسي أوروبي أو أميركي من ذكر الأمن الإسرائيلي من دون إشارة إلى أمن الفلسطينيين. والمفارقة أن إسرائيل التي تملك ما يقدّر بمائتي رأس نووي، وواحد من أقوى الجيوش، وأكثرها وأحدثها تسلحاً، ومنظومة استخبارية لا مثيل لها في الشرق الأوسط، هي التي تعدّ مهَددة أمنياً. أما الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال، وخسر في حرب الإبادة على قطاع غزّة 12% من سكانه بين شهيد وجريح، ودمّرت 90% من بيوته ومؤسّساته، وتعرّض آلاف من أبنائه للإعدامات الميدانية وعشرات الآلف للاعتقال والاحتجاز فلا اعتبار لأمنه.
يدور الحديث في الإعلام الغربي ليل نهار عن تجريد الفلسطينيين من السلاح، والذي لم يبق منه إلا الأسلحة الخفيفة، إن وُجدت، ولا يذكر أحد بكلمة ضرورة تجريد المستعمرين المستوطنين الإرهابيين من السلاح، وهم يعيثون فساداً حرقاً وتدميراً بالقرى والمدن الفلسطينية، في الضفة الغربية، ويجبرون 60 قرية وتجمعاً سكانياً على الرحيل عن أراضيهم.
يركّز الساسة الأميركيون على موضوع جثامين تسعة جنود إسرائيليين قتلوا ودفنوا تحت الركام بالقصف الإسرائيلي الذي نفذه نتنياهو وجيشه غير عابئ بحياتهم، ولا يذكر أحد أكثر من 700 جثمان فلسطيني تحتجزها إسرائيل، وبعضها منذ 50 عاماً، و33 منها لأسرى قضوا في سجون الاحتلال بالتعذيب، أو بحرمانهم من العلاج، ويصر الاحتلال على مواصلة احتجاز جثامينهم حتى ينهوا محكوميتهم، في تصرّف مستهجن لم تقدم عليه أي دولة.
ويصرّ الاحتلال على فرض رؤيته الأمنية ليس فقط على المنظومة الدولية، بل حتى على ضحاياه أنفسهم. ويتجسّد ذلك في عقيدة التنسيق الأمني التي فُرضت على الجانب الفلسطيني في اتفاق أوسلو، حيث يُطالب الطرف الفلسطيني بتوفير الأمن للمحتلين، من دون أن يكون قادراً على توفير الحماية لشعبه، من اعتداءات المحتلّين أنفسهم.
ولا يقتصر التمييز العنصري الإسرائيلي على موضوع الأمن العسكري، بل يمتد إلى التمييز في الأمن الاقتصادي والأمن المائي والأمن الغذائي والأمن الصحي. وذلك ما يفسّر إبقاء قطاع غزّة تحت حصار خانق أكثر من 17 عاماً قبل 7 أكتوبر (2023)، حتى صارت معظم مياهه غير صالحة للشرب، ووصلت نسبة البطالة بين الشباب المتعلم فيه إلى 80%، وهو ما يفسّر استيلاء الاحتلال على 85% من مياه الضفة الغربية، وتسخيرها للمستوطنات الاستعمارية غير الشرعية، حتى نزل معدّل ما يناله الفلسطيني من المياه الفلسطينية سنوياً إلى 50 متراً مكعباً مقابل 1450 متراً مكعباً لكل فرد مستوطن إسرائيلي. ويقدّم الأمن الإسرائيلي مبرّراً لتقطيع أوصال الضفة الغربية بألف حاجز عسكري ومئات البوابات التي تحوّل القرى إلى سجون مغلقة صغيرة.
يصادر الجيش الإسرائيلي أراضي الفلسطينيين بحجج وذرائع مختلفة، ثم يخصّصها بحجة الأمن لمستعمرات عسكرية، تتحوّل، بقدرة قادر، إلى مستعمرات مدنية، تتوسع من جديد بحجّة حاجتها إلى الأمن، لتلتهم مزيداً من الأراضي الفلسطينية. وكلما تقدّمت حدود المستعمرات طورد الفلسطينيون ودُمّرت ممتلكاتهم وصودر ما تبقى من أراضيهم.
انهارت في خضم حرب الإبادة الوحشية على قطاع غزّة ثلاثة أعمدة للرواية الإسرائيلية. إذ أظهر حجم الجرائم المرتكبة أن إسرائيل ليست الضحية في الصراع الدائر، بل مرتكب الجرائم. وهذا ما أقرّته محكمة الجنايات الدولية، وستقرّه بالتأكيد محكمة العدل الدولية. وتجلى بوضوح زيف الادّعاء أن إسرائيل هي حاملة القيم الغربية وحقوق الإنسان المعتمدة في الغرب. وانكشف، ربما إلى الأبد، ادّعاء إن إسرائيل دولة “ديمقراطية”، وهي تمارس حرب الإبادة والتجويع والأبارتهايد العنصري.
لكن ما لم يَنْهَر الادّعاء المضلّل أن الأمن الإسرائيلي هو المهدّد. إذ ما زالت ذكرى الهولوكوست الذي مارسه النازيون الألمان ضد اليهود الأبرياء يستخدم للتغطية على هولوكوست آخر يُنفذه حيش الاحتلال في قطاع غزّة. وما زالت المنظومة الحاكمة في إسرائيل تخفي، بإحكام، أن السبيل إلى الأمن لكل البشر في المنطقة، هو إنهاء أسباب الصراع، أي الظلم الواقع على الشعب الفلسطيني، بما في ذلك التطهير العرقي ومنظومة الاستعمار الاستيطاني الإحلالي، والاحتلال، ومنظومة الأبارتهايد والتمييز العنصري.



